استطاع «طوفان الأقصى» وضع المؤسسات الإعلامية الغربيّة أمام امتحان ما «أسّسته» في الإعلام من مبادئ الموضوعية والحياد والدقّة وتحليل الخبر. رغم تناقلها أخباراً كاذبة قبل أن تتراجع عنها، ظلّت المشكلة الأساسية في كيفية بناء أخبارها، متناسيةً في هذه العمليّة كل ما بنته في قواعد المهنة. منذ اندلاع عملية «طوفان الأقصى»، أخذ التضليل منحى مختلفاً تخطّى الهيكلية التقليدية لكتابة الخبر ونشر ما قيل عنه، أو التصريحات والبيانات الرسمية. لا يمكن اعتبار طريقة تغطية الإعلام الغربي مع الحرب على غزة على أنّها كذب، بل إنّها أكثر من ذلك. إنّها محاولة تضليل ممنهجة عبر إعادة خلق سياق مختلف. وإذا كانوا يُصنَّفون مدارس في الإعلام، فذلك يعود إلى قدرتهم على اللعب في السياق بإطار سلس، من دون خلق نقمة عند الجماهير، بفعل الرسالة المباشرة، كما يعمل إعلام البروباغندا.
(محمد سباعنة ـ فلسطين)

لكنّ ما حدث منذ بداية الحرب على قطاع غزة، أن الإعلام الغربي ارتبط بالفعل بالأرض. وما قرّره الميدان من تشتّت الجيش الإسرائيلي، انعكس بالتالي على الإعلام. منذ إعلان الكيان الإسرائيلي، كان الفلسطينيون في حالة دفاع عن النفس. لكنّهم بعد عملية «طوفان الأقصى»، تحوّلوا إلى مُهاجم، ما خلق ضياعاً بين الإسرائيليين وحلفائهم في الغرب، وبالتالي في إعلامهم. اعتادوا لسنوات طويلة على تصوير الفلسطيني مضطهداً وحاقداً. وفي لحظة تاريخية، أخذ هذا الفلسطيني المبادرة وصار ندّاً، فبات «المجرم» الأول، رغم المجزرة الإسرائيلية المستمرة في القطاع.
تناول الإعلام الغربي الحرب من طرفٍ واحد. على مدى أشهر، فرض بشكلٍ استنسابي السردية الإسرائيلية، مبرّراً جرائم الاحتلال، ووقع في فخ الأخبار الكاذبة، متحجّجاً بسرعة نقل الأخبار، ولم يسارع إلى تصحيح الخبر، بل رمى جانباً كل ما يدرّسه عن التحقق من الأخبار والحقائق.
تنطلق الأساليب التي لجأ إليها الإعلام الغربي، من تجهيل الفاعل متى شاء، والتصويب على الفلسطينيين متى شاء، كما فعلت صحيفة «التايمز» في بداية تشرين الثاني (نوفمبر). يومها، أوردت أنّ «الإسرائيليين أحيوا ذكرى مرور شهر على قتل «حماس» 1400 شخص واختطاف 240، ما أدى إلى بدء حرب يُقال إنّ 10300 فلسطيني ماتوا فيها». هذا التجهيل للفاعل، ترافق مع خلق سياق ضيّق للقضية الفلسطينية، مفاده أنّ التاريخ بدأ في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
وعندما يتعلق الأمر بالحرب، ليس هناك شيء اسمه موضوعية. إن رؤية الأبرياء يموتون ذات تأثير عاطفي قوي، وهذا ما ينطبق على الصحافي مثل أي شخص آخر. لكنّ غياب الموضوعية لا يعني غياب التوازن، أقلّه في معاملة جميع الموتى بالدرجة نفسها من التعاطف. التحيّز الإعلامي هو قضية مستمرة، تظهر غالباً عند مناقشة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتتصف بأنها انتقائية، ترمي إلى تأطير القصص بطريقة مضلّلة، وإخفاء وجهات نظر معينة.
تُظهر بعض النماذج، كيفيّة اللعب في هيكلية الأخبار لفرض الرواية، من دون خلق أخبار كاذبة. بعد قصف «مستشفى المعمداني الأهلي» في غزة، عنونت وكالة «رويترز» مقالاً في 18 تشرين الأول (أكتوبر): «ردود الفعل على قصف مستشفى غزة ومقتل المئات». بدأ المقال بالانفجار «الذي وقع في مستشفى في مدينة غزة وأدى إلى مقتل نحو 500 فلسطيني». جهّلت الوكالة الفاعل رغم إشارتها إلى أنّ إسرائيل «تشن حملة على القطاع منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)». وقبل سرد ما حدث، ونقل رأي الجهة المستهدفة، أي الفلسطينيين، بدأت الوكالة بالنفي الإسرائيلي لمسؤوليته عن استهداف المستشفى، فبات المنطق يقول بنفي ما لم يؤكد بعد. منه انتقلت إلى موقف الرئيس الأميركي جو بايدن، ومنظمة الصحة العالمية، ورئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والمتحدث باسم القوات الإسرائيلية، والرئاسة السورية، والرئيس التركي طيب إردوغان.

(محمد سباعنة ـ فلسطين)

لم تخفِ الوكالة أيّاً من الأحداث، لكنها بدأت بالطرف الإسرائيلي، ومرّرت الموقف الفلسطيني بشكلٍ عابر. ومن يقرأ الخبر، لن يفكّكه للوصول إلى الحدث الأساسي. حصل الأمر عينه بعد دخول القوات الإسرائيلية إلى «مستشفى الشفاء». نشرت الوكالة في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) مقالاً بعنوان «الجيش الإسرائيلي يقول إنّه تم العثور على أسلحة في مركز قيادة «حماس» في مستشفى في غزة». بدأت أيضاً بالرواية الإسرائيلية حول اتخاذ «حماس» المستشفى كمركز «قيادة وأسلحة ومعدات قتالية في حملة أثارت قلقاً عالمياً بشأن مصير المدنيين داخله».
نفي «حماس» للاتهامات الإسرائيلية، أتى بشكلٍ عرضي أثناء التغطية، فيما تركزت التغطية على ما ادّعت القوات الإسرائيلية بأنها عثرت عليه في المستشفى. ونقلت الوكالة بيانات القوات الإسرائيلية ومواقف نتنياهو، مذكرةً بالأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة.
وبعد أول عملية تبادل بين «حماس» والقوات الإسرائيلية، في 24 تشرين الثاني (نوفمبر)، كتبت صحيفة الـ «غارديان»، مركّزةً على الأسرى الإسرائيليين، وعددهم، وجنسيتهم، ووصفت الحرب بـ «الأعمال العدائية». وبعدها نقلت الاحتفالات في الكيان العبري، وكيف استقبلهم أهلهم، مع سرد لكيفية اعتقالهم من قبل المقاومة، فيما مرّ خبر إطلاق الأسرى الفلسطينيين بجملة واحدة برّرت اعتقالهم، إذ أوردت الصحيفة: «أفرجت إسرائيل مساء الجمعة عن 39 سجيناً فلسطينياً، و24 امرأة، من بينهم بعض المُدانين بمحاولة القتل بسبب هجمات على القوات الإسرائيلية، و15 مراهقاً مسجونين لارتكابهم جرائم مثل رشق الحجارة. بعضهم لم يروا منازلهم لسنوات عديدة».
في محاولة لتفكيك تغطية الإعلام الغربي للحرب على قطاع غزة، قام موقع The Intercept الأميركي، بجمع أكثر من 1000 مقال في ثلاث صحف: «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» في الأسابيع الستّة الأولى من الحرب. خَلُص إلى أن التغطية كانت منحازة ضد الفلسطينيين، وركزت على القتلى الإسرائيليين، وحلّل الموقع استخدامات بعض المصطلحات الرئيسية والسياق الذي استخدمت فيه. وكشفت الإحصائيات عن خلل كبير في طريقة تغطية الإسرائيليين والشخصيات المؤيدة للكيان العبري، في مقابل الأصوات الفلسطينية والمؤيدة للفلسطينيين، مع استخدامات تفضّل الرواية الإسرائيلية على الرواية الفلسطينية.
وأشار التحليل إلى أنّ تغطية الأسابيع الستة الأولى من الحرب، قدمت صورةً قاتمةً للجانب الفلسطيني. صورة تجعل إضفاء الطابع الإنساني على الفلسطينيين، وبالتالي إثارة تعاطف في الولايات المتحدة، أكثر صعوبةً. كما لاحظ الموقع أنّ كلمات مثل «إسرائيلي» أو «إسرائيل» استُخدمت أكثر من كلمة «فلسطيني»، رغم أن أعداد الوفيات من الفلسطينيين فاقت الوفيات الإسرائيليين بكثير. في مقابل كل شهيدين فلسطينيين، يُذكر الفلسطينيون مرةً واحدةً.
هناك عنوانان فقط من بين أكثر من 1100 مقال إخباري يذكران كلمة «أطفال» غزة

وفي مقابل كل وفاة فلسطيني، يُذكر الإسرائيليون ثماني مرات، أو بمعدل 16 مرة أكثر لكل وفاة من الفلسطينيين. كما خُصصت المصطلحات العاطفية للغاية لمقتل المدنيين مثل «المذبحة» و«الإبادة» و«المروعة» بشكل شبه حصري للإسرائيليين. واستُخدم مصطلح «مذبحة» من المحررين والمراسلين لوصف مقتل الإسرائيليين في مقابل الفلسطينيين بنسبة 60 إلى 1، واستُخدمت كلمة «مذبحة» لوصف مقتل الإسرائيليين في مقابل الفلسطينيين بنسبة 125 إلى 2، واستُخدمت كلمة «مروعة» لوصف مقتل الإسرائيليين في مقابل الفلسطينيين 36 إلى 4.
هناك عنوانان فقط من بين أكثر من 1100 مقال إخباري في الدراسة، يذكران كلمة «أطفال» تتعلق بأطفال غزة. وفي استثناء ملحوظ، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» قصة على صفحتها الأولى في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، حول الوتيرة التاريخية لقتل النساء والأطفال الفلسطينيين.
رغم أن حرب إسرائيل على غزة هي الأكثر دموية بالنسبة إلى الأطفال، في التاريخ الحديث، إلا أنّ لا ذكر لكلمة «أطفال»، والمصطلحات ذات الصلة في عناوين المقالات التي استطلعها الموقع. ومع أنّها الحرب الأكثر دموية تجاه الصحافيين، فإنّ كلمة «الصحافيين» وتكراراتها مثل «المراسلين» و«المصوّرين الصحافيين»، تظهر فقط في تسعة عناوين رئيسية من أصل أكثر من 1100 عنوان. وكان ما يقرب من 48 صحافياً فلسطينياً قد قتلتهم إسرائيل، فيما تجاوز عدد الشهداء من الصحافيين الفلسطينيين اليوم 135. وذكرت أربع مقالات فقط من أصل 9 مقالات، كلمتَي صحافي/ مراسل تتعلق بالمراسلين العرب.
في المقابل، ركّزت صحف «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» على المخاطر التي يتعرّض لها الصحافيون في حرب أوكرانيا، في الأسابيع الستة الأولى بعد الغزو الروسي، إذ قُتل ستة صحافيين في الأيام الأولى من الحرب الأوكرانية، مقارنة بـ 48 قتلوا في الأسابيع الستة الأولى من القصف الإسرائيلي على غزة.

ما حدث في غزة هو ترجمة لأيديولوجية الإعلام الغربي، وهي صحافة المنتصر


أظهرت الحرب الأخيرة على قطاع غزة، أنّ أباطرة الإعلام الغربي تمرّسوا في آليات العمل الصحافي، وخلق الرأي العام وتوجيهه كما يريدون، حتى إنّ لعبتهم في إعادة خلق السياق لم تكن واضحة ومفضوحة، مقارنةً بنقلهم للأخبار الكاذبة. ما حدث في غزة إعلامياً، هو ترجمة لأيديولوجية الإعلام الغربي، وهي صحافة المنتصر، التي امتنعت عن تفكيك الأخبار وتحليلها، بل عمدت إلى وضعها في الترتيب غير الصحيح، وإضافة سياق غير ذي صلة لرفض نقل الحقيقة وفضح التجاوزات المستمرة والعدوان والعنف الذي يمارسه «المنتصرون». شكل أكثر تلطيفاً لإعلام القادة والأنظمة، الذين يقيمون ورش عمل لمحاربته وترسيخ مفاهيم الموضوعية والحرية والحقيقة، التي يريدونها هم.



لا رأي آخر في TALK TV
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، غرق الإعلام البريطاني في وحول السردية الإسرائيلية. وانعكس ذلك في عمليات القمع التي مارسها الإعلاميون الذين يؤيّدون العدو الإسرائيلي، ضدّ ضيوفهم الذين يدافعون عن القضية الفلسطينية. في هذا السياق، شهدت قناة TALK TV البريطانية، مشادةً كلامية بين المذيع جيمس ويل وضيفه ستيف هيدلي، الرئيس السابق لاتحاد عمال النقل والسكك الحديدية في بريطانيا. أمر أدى إلى طرد هيدلي من المحطة بشكل عنيف. بدأ هيدلي حديثه ردّاً على كلام المذيع الذي قال إنّ الحكومة البريطانية لا تملك أموالاً لزيادة رواتب العمال المضربين في قطاع النقل، ليردّ الضيف قائلاً إنّ «لديها أموالاً لصرفها على الحروب ودعم إسرائيل وأوكرانيا». ثم هاجم المذيع هيدلي بكلام عنيف لأنّه يرتدي الكوفية الفلسطينيّة، فأجاب الضيف: «أدافع عن حقّ الفلسطينيّين في الدفاع عن أنفسهم. أعتقد أنّ الحكومة الإسرائيليّة فاشية وإرهابيّة». في نهاية الحلقة، وصف ويل ضيفه هيدلي بأنّه «عدوٌّ لهذا البلد»، وصرخ في وجهه كي يصمت، طالباً منه مغادرة الإستديو. انتهت الحلقة بمغادرة هيدلي الإستديو، واصفاً المذيع بأنه «داعم للإبادة الجماعيّة» في غزة، وهو يردّد عبارة «الحرية لفلسطين».
هذه الحادثة ليست الأولى في قناة TALK TV البريطانية. بل ذكّرت المتابعين بالموقف الذي تعرّض السياسي الفلسطيني مصطفى البرغوثي (الأخبار 12/1/2024) على القناة نفسها أثناء حواره مع المذيعة جوليا هارتلي بروير في بداية شهر كانون الثاني (يناير) الماضي. أثناء حلول البرغوثي ضيفاً للتحدّث عن التطورات السياسية، خاطبته المذيعة بهستيريا وانفعال وفوقية، وهاجمته محوّرةً كلامه وصارخة في وجهه «ربما أنت لست معتاداً وجود امرأة تتحدّث».