قبل أسبوعين، ظهرت الأكاديمية الأميركية آني أندريا في فيديو قصير تناقلته حسابات قليلة على منصّات التواصل الاجتماعي (إكس وإنستغرام)، وهي توجّه رسالة إلى الأكاديميين في الغرب الذين غاب صوتهم عن الإبادة المستمرة التي تتعرّض لها غزة. اختارت الباحثة أن تحدّد مضمون خطابها كما جمهورها المقصود بالفيديو. لم توسّع إطار موضوعها ولم تعتمد على مخاطبة المشاعر في ما يتعلّق بالمجازر التي قضت على عشرات آلاف الفلسطينيين، بل ركّزت على إبادة المؤسّسات التعليمية في القطاع. يحاول العدو الصهيوني منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أن يسوّي أرض غزة؛ أن يدمّرها بالكامل حتى تُصبح منبسطةً كصحراء قاحلة غير قابلة للحياة. يود الاحتلال ـــ لو باستطاعته ــــ محو القطاع عن الخريطة. بكمية المتفجرات والقذائف والقوة النارية التي يوبل غزة بها، لم يقضِ على حياة 28 ألف مدنيّ فقط، بل قضى على المكاتب الإعلامية والمقرّات الطبيّة، وتعمّد أيضاً ارتكاب مجزرة بحق الجامعات والمدارس هناك. تتناول هذه المقالة رسالة أندريا متتبعة دور المثقف والمتعلّم وفقاً للمفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد (2003-1935) تجاه القضايا المحقّة في العالم.


بدأت الباحثة آني أندريا رسالتها بعرض المشكلة بشكلٍ مباشر من دون مقدّمات، قائلة: «لم يتبقَّ من جامعات في غزة لأنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قصفها كلها. 94 أكاديمياً استشهدوا على يد قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر، من بينهم الدكتور رفعت العرعير صاحب القصيدة الشهيرة «إذا كان يجب أن أموت» التي أصبحت معروفة بين الناس وحول العالم». انتقلت بعدها لتعلّق على غياب ردة فعل الأكاديميين حول العالم، وخصوصاً في الدول الغربية، الذين لزموا الصمت في وقتٍ سيّئ كهذا: «العالم الأكاديمي الغربي لم يقل شيئاً عن هذا الدمار الخسيس للتعليم والثقافة. هذه مجرد خطوة أخرى تتخذها إسرائيل لجعل غزة غير صالحة للسكن». وتتساءل أندريا عن ازدواجية المعايير ونفاق مجتمع المثقفين والأكاديميين الذين يدّعون صفة لا يمارسونها بصورة فعلية وقت الحاجة الحقيقية لذلك: «إن كنت لا تهتم بهذا، فأنا أعتقد أنك شخص سيّئ. كيف يمكنك أن تدّعي حبك للتعليم؟ كيف يمكنك أن تدّعي حبك للقراءة عندما ترى المكتبات والجامعات في غزة تُمحى عن الخريطة؟ ماذا لو كانت «أكسفورد»؟ ماذا لو كانت «هارفرد»؟ إذا تم تفجير أي من تلك الجامعات، سيكون هناك غضب وإدانة واسعة وتغطية كبيرة في كل وسائل الإعلام».
تدرك الباحثة أهمية الموضوع الذي تتناوله وتنطلق من معرفة تاريخية للصراع الفلسطيني الصهيوني. تشير في نهاية الفيديو إلى كتاب المؤرّخ الفلسطيني نور مصالحة (1957) «فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ» (بنسخته الأولى باللغة الإنكليزية ــــ 2022) الذي يذكر كيف كانت غزة مركزاً للعلم والتعلّم منذ العصور القديمة. ختمت أندريا رسالتها بدعوة الأكاديميين إلى أخذ موقفٍ جدّي وفعّال ممّا يحصل، قائلةً «إنّ رؤية ثقافتهم وتاريخهم يتم القضاء عليه وتدميره تماماً شيء عنيف وقاسٍ ومقرف، لذا يجب علينا أن نتحدّث عن هذا بشكلٍ أكبر».
جاء استهداف المؤسّسات التعليمية ممنهجاً من العدو الصهيوني، فشنّ غارات مكثّفة ودمّر حتى الأسبوع الأخير من شهر كانون الثاني (يناير) تسعين في المئة من الأبنية المدرسية الحكومية في قطاع غزة، أي ما يقرب من 281 مدرسة حكومية، إضافة إلى 65 مدرسة تابعة لوكالة الأونروا تعرّضت للتدمير الكلّي أو الجزئي، وفقاً لبيان «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان». فجّر العدو كذلك مقرّات جامعات القطاع، وجاء في مقدمتها جامعتَا «الأزهر» و«القدس المفتوحة»، ثم استهدف «الجامعة الإسلامية». أما «جامعة الإسراء» الموجودة في جنوب مدينة غزة، فقد وثّق جنود الاحتلال عملية نسفها بفيديو مصوّر (17 كانون الثاني) بعدما استخدموها لشهرين كثكنة عسكرية ومركز اعتقال موقت. هذه الإبادة بحق التعليم في غزة، طالت أرواح الطلاب والأساتذة والإداريين قبل المباني والمقرات. فقد أعلنت وزارة التربية والتعليم عن استشهاد أكثر من أربعة آلاف تلميذ وإصابة ضعف العدد من الطلاب، كما استشهد 231 معلماً وإدارياً، وأصيب 756 منهم بالجروح. وضمّت لائحة ضحايا الجامعات استشهاد 94 أستاذاً جامعياً من بينهم 17 أكاديمياً يحملون درجة البروفيسور، و59 ممن لديهم درجة الدكتوراه، و18 محاضراً بدرجة الماجستير. ويمكن القول إنّ العدوان على غزة قد تسبّب في حرمان عشرات آلاف الطلاب من متابعة دراستهم الجامعية والمدرسية. وأخيراً، انتشر فيديو للصحافي هاني الشاعر، مراسل قناة «الجزيرة»، يرصد استهداف جنود الاحتلال للصحافيين والنازحين في محيط دوار «جامعة الأقصى»، حيث قامت ثلاثة دبابات تابعة للعدو بإطلاق النار عليهم بشكل مكثّف ومباشر . هذه الإبادة الشاملة للجهاز التعليمي في غزة، لم تُرتكب بالسّر أو بعيداً من مرأى العالم، بل وثّقتها كاميرات هواتف المدنيين، إضافة إلى نشرِها من جنود الاحتلال أنفسهم للتلذّذ بمشاهد الدمار وادّعاء السيطرة العسكرية. وعلى الرغم من علنيّة الجرائم الحربية، إلا أنّ كثيراً من الأكاديميين والمثقفين في الغرب وفي دول الشرق والعالم العربي، انقسموا بين أصحاب «اللاموقف» وهم أولئك الرماديّون الذين لزموا الصمت إزاء ما يحدث من تنكيل واضطهاد وتطهير ومذبحة بحق أهل غزة، وأصحاب «مناصرة الباطل» الذين برّروا لأنفسهم ولجماهيرهم اختيارهم التحدث بلغة السلطة والوقوف إلى جانب الطرف الأقوى. كِلا النوعين من المثقفين يمارسون «خيانة» لدورهم الطبيعي والعضوي في المجتمع بحسب المنظّر والناقد الأدبي إدوارد سعيد.
في كتابه «المثقف والسلطة» (1996) تحدّث أستاذ الأدب المقارن في «جامعة كولومبيا» عن صورة المثقفين والمتعلّمين ودورهم تجاه أنفسهم ومجتمعاتهم، قائلاً «العبرة بصورة المثقف أو المفكّر باعتباره يمثّل شيئاً ما، فهو شخص يمثّل بوضوح موقفاً من لونٍ ما، وهو شخص يقدّم صوراً «تمثيلية» مفصّلة إلى جمهوره على الرغم من شتّى ألوان الحواجز والعراقيل». اعتبر سعيد أنّ المثقفين أو المفكرين هم أفرادٌ يختلفون عن عامة الناس بأنّ لديهم رسالة يؤدونها. وبمعزلٍ عن نوع الرسالة أو الفن الذي يمارسه المثقّفون ـــ سواء كانوا يتحدثون أو يكتبون أو يعلّمون الطلاب أو يظهرون في التلفزيون ـــــ فإنّ أهميتها تكمن في الاعتراف بها علناً، وفي حقيقة «أنّها تتضمّن الالتزام والمخاطرة في الوقت نفسه، وكذلك الجسارة والتعرّض للضرر». يقصد الناقد الأدبي أنّ مسؤولية الكاتب والأستاذ والفنان (والمثقّف بشكلٍ عام) ليست سهلة على الإطلاق، لأنّها محفوفة بالمخاطر واحتمال التعرّض للأذى. ولذلك، فإنّه دائماً ما يُتاح له الاختيار عند كل قضية «إما أن ينحاز إلى صفوف الضعفاء والأقل تمثيلاً في المجتمع، ومن يعانون من النسيان أو التجاهل، وإما أن ينحاز إلى صفوف الأقوياء». ومن يعمد إلى اتّخاذ الاختيار الثاني المتمثّل في الانضمام إلى «استقرار المنتصرين والحكام»، فيكون قد سلك الطريق الأضمن لمصالحه الشخصية ومكاسبه (مال ومنصب وعلاقات وفرص) التي يرغب في ضمان استقرارها. لكنّه في الوقت ذاته، يمارس خيانة لمهنته ودوره كناقدٍ وقارئ للأحداث الكبرى والحسّاسة.
يكرّر إدوارد سعيد نقده لخروج المثقف عن دوره المنتظر، ويشرح امتعاضه من تخلّيه عن مبادئه بالقول: «لا أرى ما هو أجدر بالاستهجان مما يكتسبه المثقف من عاداتٍ فكرية تنزع به نحو ما يسمى «التفادي» أو التخلّي عن الثبات في موقفه القائم على المبادئ، وهو يعلم علم اليقين أنه الموقف الصائب ولكنه يختار ألا يلتزم به».
جاء استهداف المؤسّسات التعليمية ممنهجاً من العدو الصهيوني، فشنّ غارات مكثّفة ودمّر تسعين في المئة من الأبنية المدرسية الحكومية

يرجّح سعيد ذلك الأمر إلى ذريعة أنّ المثقف لا يريد أن يظهر في صورة «من اكتسى لوناً سياسياً أكثر مما ينبغي له، وهو يحاول ألا يظهر في صورة من يختلف الناس عليه، وهو يحتاج إلى إرضاء رئيسه عنه، أو رإضاء من يمثّل السلطة، ويريد الحفاظ على سمعته باعتباره متوازناً، موضوعياً، معتدلاً، وهو يأمل أن يُطلب من جديد لإسداء المشورة، أو للاشتراك في عضوية مجلسٍ أو لجنة ذائعة الصيت، ثم أن يظلّ في التيار الرئيسي للقادرين على تحمّل المسؤولية، ويأمل أن يحصل يوماً على شهادة فخرية، أو جائزة كبرى، وربما منصب سفير في دولة أجنبية». هذه العادات الفكرية المكتسبة التي يستوعبها المثقّف، هي على حد تعبير سعيد «مصدر للفساد» لما لديها من قدرة فعّالة على تشويه الحياة الفكرية وتحييدها، ثم قتلها في النهاية.
في العودة إلى موقف المثقفين والأكاديميين من التطهير العرقي للمدنيين في غزة، والتدمير الشامل للجهاز التعليمي من مدارس وجامعات ومراكز أبحاث، نجد أنّ الخوف من قول الحقيقة والإقرار بالظلم قد وضع الغمامة على أعين كثيرين من المثقفين وكمّ أفواههم تجاه الإبادة التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني. هم على اختلاف جنسياتهم ومناصبهم، يعرفون أين تكمن الحقيقة ولديهم مراكز اجتماعية وفكرية تؤهّلهم لإدراك الحق وإحقاقه، لكنهم يتهرّبون من ذلك وينأون بأنفسهم عن الصراع. هنا يأتي السؤال: كيف يمكن للمثقف الذي تقوم رسالته على المبادئ أن يرى ويدرك الحقيقة لكنه يختار أن يتجاهلها؟ وكيف يستطيع أن يتجاوز مسؤولية الاعتراف بها والإعلان عنها ومناصرتها، إلى مرحلة أكثر فساداً تأتي في وقوفه إلى جانب السلطة الاستعمارية والحكومة الاستيطانية ونظام الفصل العنصري؟ يرى سعيد أنّ أصعب جانب من جوانب حياة المثقف أو المفكر هو «تجسيد ما يقوله في عمله وتدخلاته، من دون أن يتصلّب فيصبح أشبه بالمؤسّسة أو الآلة الصماء التي تتحرك بناءً على توجيهات نظامٍ ما». هذا إذا ما تحدّثنا عن المثقف الغربي وموقفه من العدوان على غزة، لكن ماذا عن المثقفين العرب؟ الكتّاب والفنانون والإعلاميون والرسّامون والأكاديميون؟ يذكر مؤلّف كتاب «الاستشراق» (1978) أنّ المثقّف تحاصره مشكلة الولاء التي لا تمكّنه من أن يرتفع فوق الروابط العضوية مع الأسرة والمجتمع والقومية، وفي حالات تعلّق المثقف بجماعة تعرّضت للحصار مثل الفلسطينيين «فإن الإحساس بأنّ شعبك يتهدّده الفناء أو الانقراض السياسي بل المادي فعلاً يُلزمك بالدفاع عنه، وبأن تفعل كل ما في طاقتك لحمايته».

الرماديّون لزموا الصمت إزاء ما يحدث من تنكيل واضطهاد وتطهير ومذابح، وأصحاب «مناصرة الباطل» تحدثوا بلغة السلطة والطرف الأقوى

وهذا الرابط بين المثقف وشعبه وقوميته، يجعل أبناء جلدته يتطلّعون إليه في أوقات الشدة، ليقوم بتمثيل معاناتهم ويتصدى للدفاع عنها وعنه؛ باعتباره واحداً منهم.
في طرحه النقدي لتعريف المثقّف ودوره المبدئي في المجتمع، كان إدوارد سعيد يرى أنّ على المثقّف الحقيقي أن يشتبك مع العالم الذي يعيش فيه، أن يكون صوت الحق والعدل في وجه الظلم والسلطة المنتصرة، أن يكون لسان حال شعبه ومناصراً لقضايا المستضعفين والمهمّشين في العالم. ورغم تشجيعه للمثقّف/ الأكاديمي بأن يسلك الطريق الشائك ويكون مستعداً لتحمّل وابل من الانتقادات والاتّهامات والتلفيقات، وأن يتوقّع التضييق عليه من أصحاب السلطة الممارسين للاضطهاد والظلم، فإنّه لم يكن يتحدّث عن الاشتباك الجسدي كحالة الشهيد باسل الأعرج. ركّز سعيد على صورة المثقّف الذي يشتبك مع اللغة والموقف والقدرة على إعلان الحقيقة، بعكس المثقفين التقليديين موظّفي الأنظمة والأساتذة الجامعيين الذين لا يُسجّل لهم موقف خارج صفوف التدريس. مع ذلك، في ظل الإبادة والمجازر التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزة منذ خمسة أشهر والتي طالت أيضاً المدارس والمؤسّسات التعليمية، لم يستطع الوسط الثقافي العربي الخروج من وحل العادات الفكرية المكتسبة التي يصفها سعيد على أنّها «مصدر للفساد».