تخالف فرنسا بقيادة ماكرون تقليداً ديغولياً طويلاً، كان يتمثّل باتخاذ موقف متوازن تجاه قضايا الشرق الأوسط، وهو ما سمّي بالسياسة العربية لفرنسا، وقررت منذ السابع من تشرين الأول التماهي مع حكومة الحرب الإسرائيلية. وخلال رحلاته إلى المنطقة، التقى ماكرون القادة الإسرائيليين، معلناً التزامه بقضيتهم، بينما لم يذكر حتى، خلال لقائه أبو مازن على عجل، معاناة الجرحى، واحتمال وقف إطلاق النار. والأسوأ هو حديث ماكرون عن إمكانية الدعوة إلى إنشاء تحالف دولي ضد «حماس»، على غرار الذي تم تشكيله في مواجهة «داعش»، ما أثار استياءً كبيراً في الخليّة السياسية الخارجية لـ«الإليزيه»، التي أجبرت، مدفوعة بالخجل، على تعديل التصريحات الرئاسية، وقد شاركت رئيسة «الجمعية الوطنية» والحزب الرئاسي، يائيل براون بيفيه، في زيارة تل أبيب، لالتقاط الصور مع القادة السياسيين والعسكريين. أمّا وزيرة الخارجية، كاثرين كولونا، ووزير الجيوش، لو كورنو، فسوف يسيران على خطى رئيسهما، حتى إن لو كورنو اعترف بأن فرنسا «تقدّم معلومات استخبارية لإسرائيل». ومنذ 7 تشرين الأوّل، اعتمد دارمانين (وزير الداخلية الفرنسي) نهجاً قمعياً شرساً، في مواجهة أي تعبير عن دعم «حماس»، وكان يحظر، حتى الأيام الأخيرة، التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، في ظاهرة لم نشهد نظيراً لها في ظلّ «الجمهورية الخامسة». كيف يمكن تفسير مثل هذه القطيعة؟ يحدث هذا كلّه كما لو أنّه يتم محو 60 عاماً من الديبلوماسية الفرنسية، وأن النخب السياسية التي قررت إنهاء حقبة «الديغولية»، تريد إعادة وصل ما انقطع مع التاريخ الاستعماري المديد لهذا البلد. وفي تلك المرحلة، في عهد غي موليه مثلاً، خلال العدوان الثلاثي، كانت إسرائيل تعدّ شريكاً لفرنسا، التي كانت حريصة، قبل كل شيء، على الحفاظ على نفوذها الاستعماري في شمال أفريقيا. تصنع السياسة الخارجية عادةً استناداً إلى مجموعة من المعايير العقلانية، لكننا نعجز اليوم عن إيجاد مثل هذه المعايير. كيف يمكن تفسير إعادة تموضع بهذا الحجم، والتي يظهر أنّ عواقبها على فرنسا، التي تعاني أصلاً في أفريقيا، ستكون كارثية؟ قد يقول البعض إنّ نقطة التحول هذه في الديبلوماسية الفرنسية غير مرتبطة بماكرون، حتى ولو أنها تفاقمت إلى حد كبير اليوم، بل هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باختفاء النخب الديغولية القديمة، وفي المقابل صعود النخب التي تغذّت على الانحياز الأطلسي، منذ الحادي عشر من أيلول، والتي أصبحت إسرائيل، بالنسبة إليها، حليفاً لا غنى عنه.
وقد كان دومينيك دو فيلبان، آخر المعبّرين عن الثوابت الديغولية، عندما عارض الحرب ضد العراق في عام 2003. وكان أول تمظهر للاستدارة المشار إليها، هو عودة فرنسا للقيادة الموحدة لـ«الناتو» في عهد ساركوزي، والتي تلتها أنشودة الحب لإسرائيل من الثنائي هولاند/ فالس. يميل البعض إلى تفسير هذه الاستدارة بإدراك فرنسا لانحدارها التاريخي، كما تجلّى في منطقة الساحل، تحت حكم هولاند، وقرارها بالالتحاق بالإمبريالية المسيطرة، لإنقاذ بعض ما تبقى لديها من نفوذ.
هذه واحدة من بين وجهات نظر عدة. ومع ذلك، من غير الممكن عدم ربط هذا التوجه الديبلوماسي المؤيد للصهيونية بالثورة الثقافية الرجعية الفعلية، ولا سيما الإسلاموفوبيا ومناهضة «العالم الثالث»، التي راجت في أوساط النخب السياسية والثقافية الفرنسية، لحوالي عشرين عاماً، إلى درجة أنّ بعض الباحثين لم يتردّدوا في التحدث عن احتمال وصول «الفاشية» إلى السلطة في فرنسا (هوغو باليتا). والجدير بالذكر أنّ تاريخ انطلاق الموجة المعادية للإسلام يعود إلى عام 2004، مع إقرار القانون الذي يحظر ارتداء الحجاب في المدارس، وما تلا ذلك التاريخ من تجذّر هذه الظاهرة، وتوغلها في المؤسسات السياسية والإعلامية الفرنسية، وتحوّلها إلى العنصر الأيديولوجي الأكثر أهمية وإثارة للقلق تقريباً، في الحياة السياسية والثقافية، لما يقرب من 20 عاماً. وغنيّ عن القول إنّ هذا هو السياق الذي تندرج في إطاره الحملة المؤيدة للأطلسي والصهيونية، والذي يريد البعض أن يضفي عليها صبغة «الحرب الحضارية الحقيقية»، مع التركيز على مخاطر «الاستبدال الكبير» أي حلول المهاجرين وأبنائهم في مكان الفرنسيين الأصليين.
وفي الأيام الأخيرة تحديداً، وبالتزامن مع التقارب الفرنسي - الصهيوني الذي يقوم به ماكرون، نشهد على شاشات التلفزيون والشبكات الاجتماعية موجة مذهلة من الكراهية المعادية لـ«حماس»، تجمع الفاشيين المؤكدين، والنشطاء اليمينيين ومروّجي الدعاية الصهيونية، الذين دائماً ما يشكلون «اتحاداً مقدّساً رائعاً»، يسعى إلى تبرير المذبحة المرتكبة بحق المدنيين، لهدف أسمى جديد، هو محاربة الإسلاموية. وانضمّ إليهم حتى بعض قادة اليسار من شيوعيين أو اشتراكيين أو بيئيين، وسط حالة من الخلط البشع، ما بين الأحداث الإرهابية التي عانت منها فرنسا في السنوات الأخيرة، وقتال إسرائيل ضد المقاومة في غزة. ووسط غياب القدرة على إقامة علاقة سببية مباشرة، هناك شيء واحد مؤكد، وهو أنّ الغالبية العظمى من الداعمين السياسيين والثقافيين الأكثر تشدداً لإسرائيل، في السنوات الـ 20 الماضية، هم في طليعة الهجوم العنصري المستمر ضد المسلمين والسود والمهاجرين.
علاوة على ذلك، فإنّ هذه المجموعة نفسها هي التي تهاجم وتهدّد يومياً حزب «فرنسا الأبيّة» بقيادة ميلانشون، والذي يمثل المعارضة اليسارية الوحيدة ذات المصداقية في البلاد، والتي، على الرغم من الضغط الهائل الذي تتعرض له، ترفض وصف «حماس» بأنها جماعة إرهابية، وتجدد دعمها للقضية الفلسطينية. وفي هذا الصدد، وفي مؤشر على هذه الحرب الحضارية المستمرة، فإنّ ميلانشون لم يعد يتعرّض للانتقاد بصفته عدواً للرأسمالية والليبرالية الجامحة، بل بكونه عدواً حقيقياً للحضارة الغربية.
كان من الممكن تفهّم التخلي عن المبادئ القديمة للديبلوماسية الفرنسية، دون تبرير ذلك، لو أنّ هذا البلد يستطيع تحقيق مكاسب بفعل كهذا. غير أنّ ما يجري هو عكس ذلك تماماً، إذ إنّ خيانة الثوابت التاريخية المشار إليها والتماهي مع تل أبيب لم تفضِ سوى إلى الفشل الذريع وإلى ازدرائه من قبل الشعوب العربية من جهة، ومن قبل صديقه الإسرائيلي من جهة أخرى. وتجلّى ذلك البارحة، عندما قام الطيران الحربي الصهيوني بقصف مبنى «المعهد الفرنسي»، ومركز «وكالة الصحافة الفرنسية». ويبدو أنّ فرنسا ستجد نفسها مضطرة إلى تجرّع «مرّ الكأس» حتى الرمق الأخير.

* مؤرّخ من رموز حركة التضامن مع فلسطين في فرنسا