ربما لا حاجة بعد اليوم إلى تكرار الحديث عن قذارة الدور العربي الرسمي ومسؤوليته المباشرة عن شلالات الدم الفلسطيني. فالأدلة، المحسوسة قبل الملموسة، على التورط العربي المشين والمخزي أكثر من أن تُحصى أو تُعدّ. بل إنّ كلّ ما يُقال عن «العجز» العربي الرسمي وانعدام قدرته على وقف استباحة الدم الفلسطيني، أو فرض وقف النار، أو فتح المعبر المصري... أو غيرها من الأفعال البديهية التي توجبها المصلحة قبل المسؤولية، هي محض أكاذيب. وهدفها التمويه على حقيقة الدور القذر ووظيفته غير الثانوية أبداً في مخطط اليوم الغربي - الإسرائيلي الأسود. بل إن ثمة إشارات (وتسريبات) إسرائيلية وغربية على أن بعض مظاهر الوحشية الإسرائيلية تتم بعلم وطلب عربي (سعودي وإماراتي...) خاص!لذلك، يمكن القول إن عجز النظام العربي الرسمي إن وجد، وهو قطعاً غير موجود، بدليل ما يملكه من وسائل ضغط ومكامن قوة سياسية واقتصادية لا حصر لها يمتنع عن تفعيلها، هو عجز الشارع العربي لا «النظام». فالنظام، وعلى ما تشير الأدلة إياها، بـ «ألف خير»، وليس هناك ما «ينغّص» عليه، حتى الآن، تورطه في المقتلة الفلسطينية. لولا أنه فعلاً بألف خير لكان المشهد غير هذا المشهد، ولكان الموقف غير هذا الموقف. بل إن العجز العربي الحقيقي الجدير بالاهتمام هو عجز هذا «الشارع» وتواطؤ نخبه وجبنها، بل وتماهي بعضها، الواعي أو غير الواعي، مع مصالح أصحاب «المال والسلطة» المحليين أو الدوليين، وخشيتهم من ضياع الفتات الذي يُرمى إليهم لقاء خدمات الوشاية أو تفويته...
إنه حال الشارع وواقعه المؤسف، وهو الحال الذي حال ويحول دون امتلاك القدرة، ليس على «التغيير» فقط، بل مجرد التفكير فيه، هذا إن لم يكن إلى ما دون ذلك بكثير. فلا تأثير لو طفيف لا على جوهر السياسات الرسمية المعتمدة ولا حتى على شكلياتها. بل إن هناك ما يوحي بحدوث العكس، وإلّا ما معنى تجرؤ الحكام أو تفسيره، على نحو ما يفعل محمد بن زايد وزميله في الارتهان محمد بن سلمان وغيرهم، على المضي في سياسات التبعية المطلقة والارتهان الأعمى لـ «المركز» الغربي ولأطماعه ومطامحه المعادية لكل ما يتصل بالمصالح العربية.
إنها المعادلة التي أفضت، مع غيرها من المعادلات المختلّة، إلى المقتلة الجارية في فلسطين اليوم، وغذّت أسبابها وبرّرت وتبرّر الاستمرار فيها. والحاجة إلى كسر هذه المعادلة الكارثية غير ممكن إلا ساعة يقوم هذا الشارع بمسؤوليات الحد الأدنى المنوطة به، أو ساعة يبادر، فعلاً لا قولاً، إلى تهديد العروش التافهة أو هزّ مرتكزاتها الغربية الصريحة، وهو ما يتطلب جرأة الفعل الذي لا يسأل عن التبعات بقدر ما يحرص على النتائج.
فصمت الحكام وامتناعهم عن القيام بما عليهم تجاه فلسطين أو غيرها من قضايا العرب الصميمية، هو، في الواقع، صمت المتواطئ والشريك قبل أن يكون صمت العاجز. بل إن اكتفاءهم من مسؤولياتهم بالبكائيات التي لا معنى لها، يستند، في ما يستند، إلى اطمئنانهم إلى «ضعف» هذا الشارع وثقتهم بديمومة صمته. إن الشارع مدعو إذا ما أراد أن يكون صاحب دور في صوغ السياسات ورسم التوجهات، إلى القطع مع أشكال الاعتراض وأساليب الاحتجاج التقليديين، خصوصاً بعدما ثبت وبالملموس عقمهما ليس على الفرض فقط، بل على التأثير لو بحدوده الدُّنيا. ناهيك عن أن الثبات على هذه الأشكال من الاعتراض التقليدي الخالي من المضمون التهديدي الجدي بات بمنزلة ذريعة إضافية من ذرائع الحكام للقول بشرعية ما يقومون به من أفعال الخيانة الموصوفة.
إن «الصمت» العربي الرسمي عما تتعرض له غزة من حرب إبادة غربية سيستمر وسيتعمّق ما استمر التعبير الشعبي مقصوراً على «المناسبات» ومحصوراً بها. إن الشارع مدعو، عبر نخبه الوطنية والقومية، إلى النهوض بواجباته، والشروع في وضع البرامج «الثورية» وترجمة مضامينها بعيداً عن حسابات السلطة وذيلية حكامها. وهذا يتطلب إعمال المخيّلة الثورية واختيار الأفعال المطابقة لها، وبما يكسر مع معادلات العجز ويطيح بها. إن أقل واجبات الشارع تجاه اللحظة هو الإضرار المباشر بالمصالح، وإن تعذّر الإضرار فلا أقل من بث الهلع في نفوس الحكام وعبرهم إلى نفوس رعاتهم من أهل الغرب الجماعي المجرم. فمسؤولية هؤلاء الحكام المؤكدة عن الدم الفلسطيني المهدور، ظلماً وعدواناً، لا تقل أبداً عن مسؤولية شريكهم الإسرائيلي وسيدهم الأميركي، بل هي تفوقهم جراء تعطيلهم لإمكانات التأثير العربي وتوظيفه بما يخدم مصالح الخارج المعادي فضلاً عن مصالح السلالات البائدة وورثتها.
إن مخاطر اللحظة السياسية الفلسطينية والعربية تفوق كل ما سبقها. بل يمكن التأكيد إنها أكبر وأخطر مما تبدو عليه، بل وأبعد مما ظهر منها. فالموت الذي يطارد مدنيي غزة أطفالاً ونساء وشيوخاً لا يمكن قياسه، على وحشيته ودمويته، بما أعدّ أو يُعدّ له في غرف القرار الغربي وأروقته... «العربية». وما يعدّ أو يُعدّ له لا يقل عن الهدف الغربي والإسرائيلي الأسمى: الإبادة السياسية. وهي الإبادة التي في ظنهم أنها قد تسمح بشطب القضية ومحو آثارها. تزاحم الأدلة على هذه الغاية لا يترك مجالاً للتأويل. خصوصاً حين نتأكد وبالملموس أن ما يسمى «العجز العربي» عن المواجهة، أو «تحدي» المركز الغربي، هو في الواقع أكذوبة مفبركة صنعتها الأنظمة نفسها وروّجت لها تبريراً للتقاعس المزمن وتمريراً للجرائم المتصلة.
يبقى أن نقول إن البكائيات التي تناوب عليها وزراء الخارجية العرب، قبل أيام، في نيويورك أعجز من أن تحجب ما هو واضح. فقذارة الدور العربي المسؤول، تبعاً لتوزع الأدوار، عن الشق القاضي بتسهيل إفراغ غزة، وتمويل هذا الإفراغ وتأمين شروطه أكثر من واضحة.
إفراغ الأرض الفلسطينية من أهلها هو هدف الحرب الجوهري ومبرر مواصلتها... لكن الأكيد أن دون ذلك، الأهوال التي ستحرق العروش وتدمر الأساطيل... هذا وعد المقاومة الصادق ووعيدها الأصدق.