نحن اليوم، إعلاميّاً وافتراضيّاً، داخل الطوفان أو داخل الإعصار. نتناول آلاف المعلومات والصور والحملات والشعارات والخطابات بشكلٍ يوميّ، وقد ننشر نحن شيئاً منها. لا شكّ في أنّ التركيز اليوم على القضيّة الفلسطينيّة مختلفٌ عن السنوات السابقة. أحد العناصر التي فعّلت ذلك هي مواقع التواصل الاجتماعي، بكلّ مساوئها، التي سمحت لكلٍّ منّا أن ينشر الأخبار ويُشارك في «حرب المعلومات» (افتراضيّاً). والدليل على ذلك جنون المنصّات الإعلاميّة الإسرائيليّة في محاولة تلميع صورتها أمام العالم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

(كارلوس لطوف ــ البرازيل)

لكن في الوقت نفسه، إذا ما أخذنا بضع خطواتٍ إلى الخلف ونظرنا إلى كلّ هذا النشاط الافتراضي، سنجد أنّ هُنالك محاولات لإعادة توجيه كُلّ هذا الغضب، لتقسيم القضيّة إلى مجموعة قضايا تقنيّة يُمكن حلّها.
الاستراتيجيّة هذه ليست جديدة، بل هي نفسها الطريقة الوحيدة التي تُشيح الأنظار بعيداً من أصل أيّ أزمة سياسيّة، وتشغل الناس بتفاصيل تقنيّة ضمن هذه الأزمة.
ما هي هذه الاستراتيجيّة؟ تقضي الأخيرة بتفكيك الأزمة السياسيّة ونقلها من المجال السياسيّ (حيث يُمكن حلّها فعلاً) إلى مجالات تقنيّة مختلفة (حيثُ يمكن معالجة بعض تفاصيل الأزمة التقنيّة من دون التطرّق إلى جذرها، بل إنّ الأزمة تتحوّل مع الوقت إلى ما يشبه ظاهرة طبيعيّة في نفوس كثيرين، لا مُشكلة بإمكاننا حلّها).
لم تعد الأزمة احتلالاً ومشروعاً استعمارياً لا حقّ له في الوجود في هذه البقعة في العالم، بل تفكّكت الأزمة وأصبحت مجموعة أزمات تفصيليّة تقنيّة ضمن «واقع» الاحتلال. وهكذا ينشغل كُلّ اختصاصيّ بـ«اختصاصه» في نضاله الرقمي.
«تطبية» الأزمة (أي نقلها إلى المجال الطبّي) ستؤدّي إلى تركيز الحديث عن المستشفيات، عن أهمية عدم قصفها، عن الضغط النفسي و«الاستنزاف» الذي يعانيه العاملون في القطاع الصحّي في مستشفيات القطاع، وعن شحّ المواد الطبيّة والأدوية، وعن المعاناة عند إجراء عمليّات جراحيّة من دون مُخدّر. ولهذه الأزمات الطبّية لجانها و«خبراؤها»، ومؤسّساتها الكبرى كمنظّمة الصحّة العالميّة و«أطباء بلا حدود» وغيرهما من مراجع «الخبراء» الذين سيتناولون هذه الأزمة الطبّية لحلّها. «أوصلوا الأدوية»... «لا تقصفوا المستشفيات»... «لا تقطعوا عنها الكهرباء»... «لا تقصفوا سيارات الإسعاف»...
مواقع التواصل الاجتماعي سمحت لكلٍّ منّا بالمشاركة في «حرب المعلومات»


«تطبية» الأزمة ستسلّط الضوء أيضاً على شحّ الغذاء وتلوّث مصادر المياه في هذه المناطق، وعلى ضرورة تأمين المواد الغذائيّة ومصادر المياه من أجل «تخفيف» الأزمة الإنسانيّة، بل سترتفع الأصوات عالياً للمُطالبة بوصول المُساعدات الإنسانيّة والمواد الأساسيّة، وتتنافس الجهود الفرديّة (نشطاء ومؤثّرين) والجهود المؤسّساتيّة في فتح المجال لجمع تبرّعات الإغاثة، من دون أن يلتفت أيٌّ منهم (على الأقلّ في رسائل الحملات) إلى وقاحة هذه الأزمة المُخترعة، فتكتشف حينها أنّه إذا ما أغلق مُعتدٍ صنبور المياه في دارك، سيتبرّع لك العالم بقنينة ماء.
«قوننة» الأزمة (أي نقلها إلى المجال القانوني) ستُفكّك الحرب إلى تدابير وقرارات أمنيّة وعسكريّة، إلى أسلحة مُحرّمة وأسلحة مقبولة، إلى ضحايا أبرياء وقتلى و«أضرار جانبيّة». ستتناول منظّمات حقوق الإنسان وخبراء القانون الدوليّ أهميّة الالتزام بالقانون، وأهميّة تجنّب استخدام الفوسفور الأبيض غير المشروع واستبداله بالصواريخ التقليديّة التي تُسقط المباني فوق رؤوس سكّانها. تكتشف حينئذٍ أنّ لا مُشكلة في أن تُقتل أنت وأهلك وأقرباؤك وجيرانك، لكن هناك أعراف قانونيّة للسلاح الذي تُقتل به، وللمكان الذي تتواجد فيه عندما تُقصف، ولعدد الذين يُقصفون دُفعةً واحدة بدل أن يُقتلوا تدريجاً على دُفعات.
وعلى هذا قِس. لاحظ مدى انغماسنا اليوم في نضالات تفصيليّة مؤطّرة سلفاً، يقودها خبراء مجالاتها ومؤسساتهم، وأعظم نتائج هذه النضالات قد تكون تحسين ظروف الاحتلال، ووقف «الإبادة» والعودة إلى القتل التقليدي الذي اعتدنا عليه، هو الذي لا يُحدث الكثير من الضجيج.
ختاماً، إنّ الأزمة الحقيقيّة ليست أزمةً للخُبراء والتقنيّين، والقضيّة ليست للأكاديميّين والمثقّفين. في نهاية المطاف، عندما يعلو صوت الرصاص، هنالك «ناشطٌ» واحد فقط ينفع نشاطه في صناعة الحلول وتغيير الواقع.

* طبيبة وباحثة لبنانية