بات واضحاً أنه ليس في جعبة إسرائيل ما تداوي به جراحها الثخينة. وهي، بالمناسبة، جراح مفتوحة على التعمّق كما على التمدّد. وحشية القصف على غزة، والتركيز على استهداف المدنيين، والسعي المحموم إلى إفراغ المدينة من سكانها، لن تغيّر في المعادلات الجديدة المفروضة بقوة الميدان. فالجسارة الفلسطينية قالت كلمتها الحاسمة، وما كتب قد كتب ونقطة على السطر. وعليه، لم يعد بمقدور إسرائيل، ولا رعاتها الغربيين، حرف المسار الطبيعي والمنطقي للأشياء. قد يكون في وسعهم، وهذا ممكن، أن يبطئوا من سيره، لكن وبالنظر إلى معالم المشهد المرتسم واحتمالاته الواعدة، فإنّ إمكانية حرفه أو وقفه قد فاتت، وخصوصاً أن هذا المسار التاريخي والاستراتيجي الذي افتتحته ملحمة «العبور الكبير»، يترافق مع تحولات تكتونية تلفّ العالم من أقصاه إلى أقصاه.الخيال الفلسطيني الذي صنع مجد العبور، وما تخلّله من تحرير للأرض وأسر للضباط وقتل للجنود واعتقال لما يسمّى كذباً بـ«المدنيين»، يدرك جيداً محدودية القدرات الإسرائيلية، ويدرك أيضاً ما في جعبة هذا الكيان، وما في جعبته المثقوبة بات يقتصر على الوحشية العارية، وهي الوحشية التي لا تملك، برغم فداحة ما تسبّبه من خسائر لا تعوّض في أرواح المدنيين العزّل، القدرة على وقف المسار الذي افتتح صبيحة السابع من تشرين المجيد.
ما كتب قد كتب، ونقطة على السطر. ولأنّ الأمر كذلك، لن يكون بمقدور أحد بعد اليوم امتلاك القدرة على التعديل. وإذا كانت الإضافة ممكنة ومتاحة ومطلوبة، وهي حصراً إضافة فلسطينية ولبنانية وسورية... فإن التعديل مستحيل. وليس هناك، بعد اليوم، أيّ سبيل لوقف العدّ العكسي لانحدار بات أكثر من واضح، وأكثر من راسخ.
الورطة الإسرائيلية كبيرة. وهي أكبر ممّا هو ظاهر حتى الآن. والمحاولات المحمومة والمسعورة للخروج منها لن تقود إلا إلى تعميقها. فالوحشية، وهي أحد أهم أعمدة الوجود الإسرائيلي، فقدت أغلب مفاعيلها التي كانت لها ذات يوم. وهي الأساس الذي وفّر لهذا الكيان طول العمر وطول الإقامة في ربوع عربية قررت المقاومة والمباشرة بشطب ما اعتور تاريخها من ذل طارئ أو هوان عابر. ويمكن القول، وبثقة لها أسانيد الجسارة وبراهين المقاومة، إن الوحشية هذه ستنقلب على أصحابها، وسيكون لها نتائج عكسية لا أقلّ من تكريس وقائع الميدان.
استنجاد بنيامين نتنياهو الصريح والمكشوف بالولايات المتحدة، وهرع هذه الأخيرة إلى نجدته السياسية والأمنية والتسليحية وربما حتى العسكرية المباشرة، يقول الكثير الكثير، ويكشف عن حال الكيان وواقعه الذي بات في مهب عواصف المقاومة ورهن إشارة قادتها.
التردد أو التخبط العسكري الإسرائيلي، والإرباك السياسي المصاحب له، يشي بمدى عمق الورطة واستحالة الخروج منها. وفيه ما يؤكد على أن ما قبل 7 تشرين لن يكون كما بعده. لذلك فكل محاولة للتصعيد، وخصوصاً العسكري، هي من نوع الهروب إلى الأمام، ولن يفضي، مهما تعاظمت وحشيته، إلا إلى تعميق الورطة الإسرائيلية التي صنعتها الجسارة الفلسطينية والتي باتت بمثابة المعطى النهائي والأساس الذي يبنى عليه ويؤسس.
خيارات إسرائيل وداعميها في العالم أو في الإقليم محدودة جداً. ولكل واحد من هذه الخيارات ثمنه المرتفع والمكلف للكيان ولأصحابه الأصليين من عواصم الغرب. والخيارات هذه لا تقود إلا إلى تعميق الورطة إن لم يكن تحوّلها إلى أزمة تضرب الأسس الوجودية لكيان عاش بأطول مما تقوله الطبيعة، وعاش رغماً عنها بفضل الأمصال الغربية وغيرها من أسباب الحياة التي يستحيل أن تشبه الحياة.
أزمة إسرائيل اليوم هي من أزمة الأمس القريب وحتى البعيد. وهي أزمة الكيان المصطنع وأوهامه التي نعيش لحظة تبدد خرافاتها. فمن وهم القوة إلى وهم الديمومة إلى وهم القدرة على تأمين الاستمرارية. وهي استمرارية لا حياة لها في ظل إمساك المقاومة بالزمام وتصدّيها للمهمة التاريخية، وهي المهمة التي تتمحور بنودها على كنس قاذورات الاستعمار المحكوم بالأفول، طال الزمان أو قصر.
الوقائع الصلبة التي صاغتها مواجهات الأيام الثلاثة الماضية، وما تضمّنته من سوابق ميدانية وأسفرت عنه من سوابق استراتيجية صارت أساس المعادلة في صراع انقلبت موازينه وتغيّرت معادلاته مرة جديدة إلى الأبد. فخلال دقائق لا تشبه الدقائق، انهارت أجزاء جديدة من البناء الاستعماري المزعوم، وظهرت الحقيقة المعروفة بأنقى وأوضح صورها، فسقطت الأكاذيب وتهافتت الأوهام. واليوم، وبصرف النظر عن كل ما سيلي، وعن كل ما يمكن أن يحمله من وحشية غير مسبوقة، فإن ما تحقق يرقى لأن يكون في مرتبة الإعجاز النضالي. ففي وضح النهار، وبالبث الحي ضرب المقاومون، وكان لضربتهم أن زعزعت «يقينيات» سادت طويلاً.
ومع ذلك، ومن باب التحسب، وبعيداً عن الحماسة السائدة هنا وهناك وهنالك، وهي، بكل الأحوال، حماسة مشروعة ولها دورها الإيجابي إن بقيت مضبوطة، فإن إسرائيل، حتى اللحظة، برغم كل ما لحق بها وبصورتها تظل أقوى من أن تنتهي. لكن في الوقت عينه، فإن الحقيقة باتت أكثر من جليّة أنها قابلة للهزيمة، وهي الهزيمة التي ستؤسّس لهزائم أشدّ وتفضي في نهاية المطاف إلى شطبها التام من خريطة المنطقة. فالكيان الذي أسقط في امتحان غزة المحاصرة بات أضعف وأكثر هشاشة من أي زمن مضى، وهو ما يجب أن يبنى عليه ويعمل له.
في هذه الغضون، يأبى جرذ رام الله موظف الأمن الإسرائيلي إلا أن يكون أميناً لجوهره الرديء، وهو الجوهر المسؤول عن ملاحقة مناضلي الضفة الغربية واغتيال أبطالها وتصفية فدائييها على نحو ما جرى مع الشهيد نزار بنات الذي سجلت كاميرات المقاومة وتقارير مراسليها الميدانيين حضوره جسداً وروحاً في المواقع الأمامية في غزة والضفة وجنوب لبنان إلى جانب المقاومين الذين يتولّون بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن الجنوب العالمي رسم معالم الأفق العربي الجديد.