كانت أغنية حسن الأسمر «كتاب حياتي يا عين» مدخلاً مهمّاً للحديث مع سائق أجرة عن الظروف التي تجبره للعمل حتى ساعة متأخّرة من الليل. يعيد تموضع نظّارته فوق عينيه، ثم يرفع صوت المذياع، تحديداً عندما مرّ كوبليه «الفرح فيه سطرين». «أنت يا حسن الأسمر كتابك كان فيه سطرين فرح، لكن أحنا ما شفناش فرح في هالبلد الخراب»، يقول. يثقل بقدمه على دواسة الوقود لزيادة السرعة لكنها لا تستجيب. يسعل وهو ينفث الهواء المكتوم في صدره إثر ارتشاف السيجارة بشراهة: «مالك يا سوبارو حتى أنتِ ما فيكي حيل!».
«أبو أحمد»، خمسيني من سكّان غرب مدينة غزة، يبدأ عمله السادسة صباحاً. يفعل ابناه الشيء ذاته. لكل منهم سيارته الخاصة. غير أن الأب، على عكس الابنين، يقود سيارة متهالكة موديل 1989. جميعهم يكدّون لأكثر من 12 ساعة يومياً لأجل توفير قوت الأسرة المكوّنة من 15 فرداً بينهم الأحفاد.

يشير أبو أحمد إلى أن العمل كسائق لم يعد مجدياً في قطاع غزة بفعل الحصار الذي تفرضه إسرائيل منذ 15 عاماً، وما نتج منه من تضخم نسبتي الفقر والبطالة. عائده اليومي لا يتجاوز ثلاثين شيكلاً (9 دولارات)، وهو مبلغ بالكاد يكفي لشراء وجبة الغداء للأسرة، فيما يتكفّل ابناه بادخار عوائدهما لسداد ديون وأقساط مستحقة على كاهل الأسرة.

أثناء قيادته للمركبة، أجرى أبو أحمد اتصالاً هاتفياً بأحد أبنائه للاطمئنان على ظروف العمل: «إيش يابا في شغل ولا زي حلاتي بلف في الشوارع مش لاقي ركاب؟». «وأنا مثلك»، يرد الابن. «معلش يابا... أرزاق ومقسّمة»، ينهي الأب مكالمته على عجل حفاظاً على ما تبقى من رصيد الهاتف النقال.

إذا كان أبو أحمد قد سلّم بالواقع، فإن محمد أبو راشد (32 سنة) لم يقبل بالأمر بتاتاً، لذلك فضّل أن يعمل صباحاً في مهنة السباكة وفي ساعات المساء يعمل سائق أجرة، لأجل توفير أجرة المسكن. يرجِع أبو راشد، الشاب الحاصل على شهادة الدبلوم المهني، عزوفَ الكثير من الناس عن ركوب سيارة الأجرة وتفضيل السير على الأقدام، خصوصاً خلال ساعات الليل، إلى الفقر المدقع الذي حلّ بمئات الأسر في القطاع: «من يملك شيكلاً سيفضّل إنفاقه على احتياج أكثر إلحاحاً من ركوب سيارة الأجرة».

يحاول أبو راشد احتواء غضب زوجته نتيجة انشغاله الدائم بالعمل، باصطحابها معه في المقعد الأمامي مرّة أو مرّتين على أبعد تقدير في الأسبوع الواحد. «لنكن صريحين.. هي أيضاً بحاجة إلى أن تروّح عن نفسها، لكني لا أملك مالاً كافياً لدعوتها إلى مطعم أو غيره، لذا أكتفي باصطحابها معي ليلاً، فهي من ناحية تروّح عن نفسها وأنا بدوري أواصل عملي ونجتمع على شطيرتي فلافل والكثير من الحب في آخر الليل». يحمّل أبو راشد الحكومة في غزة مسؤولية التدهور الاقتصادي القائم: «الحكومة مطالبة بتوفير العمل للسكّان... نحن نطفح الدم من أجل إطعام أطفالنا والحكومة منشغلة في جلب إيراداتها».

قبل أيّام، تقدّم «أبو أمجد»، وهو في العقد الرابع وحاصل على شهادة بكالوريوس تعليم أساسي، بطلب للحصول على إذن عمل في الداخل المحتل، برفقة آلاف الغزّاويين الذين تجمّعوا في مشهد مأساوي قبالة مقرّات الغرفة التجارية المنتشرة في مناطق القطاع الخمس. يرى الرجل أن ظروف الحياة لم تعد تحتمل المزيد من الاستمرار في الصمت: «لا أحد يشعر بمأساتنا، خصوصاً الحكومة، فنحن مطالبون بدفع قيمة الترخيص السنوي، ونتحمّل دفع قيمة الوقود الذي يعدّ الأعلى سعراً على المستوى العربي، ونعود بالفتات لأطفالنا... لم يعد أحد يحتمل هذا الأمر». يضع «أبو أمجد» على زجاج مركبته الخلفي ملصقاً كتب عليه: «لا أحد يتمنالك الخير غير شركة التأمين». جملة ربما تشير إلى صعوبة ظروف السائقين، والغزاويين عموماً، في ظل ارتفاع نسبة البطالة لأكثر من 53 في المئة، والفقر إلى نحو 70 في المئة، بفعل العدوان والحصار وممارسات الاحتلال التعسّفية.