«لقد فقدنا قوّة الردع أمام حماس في غزة، ولا مانع من تسديد ضربة قوية، قبل استكمال مباحثات التهدئة»، أو «الكابينيت يفكر أكثر حين يجتمع من أجل الانتخابات لا الحرب. يجب أن تحدّد إسرائيل ماذا عليها أن تفعل»، أو «ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية لا يحقّق هدف الردع أمام حماس». هي تصريحات لا تحصى صدرت على ألسنة مسؤولين ومحلّلين إسرائيليين، الرابط بينها هو الاعتراف بأنّ المقاومة هي من يرسي حالياً معادلة ردعية جديدة أمام إسرائيل، ويغيّر قواعد «اللعبة».زعيق صافرات الإنذار المبكر في مستوطنات الغلاف لا يتوقّف، يحدث ذلك بينما يستمرّ المجلس الوزاري المصغّر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينيت) في الانعقاد دون أن ينتج عنه، حتى الآن، قرار حاسم بشأن استمرار عدوانه العسكري على القطاع من عدمه. وقد بدأت صرخات قادة المجالس الاستيطانية، والمسؤولين السياسيين من أخصام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، والمحلّلين السياسيين والعسكريين، تتعالى، مطالبةً بتوجيه «ضربة قاضية» للمقاومة.
في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، رأى المراسل العسكري، رون بن يشاي، أنّ العِبر المستقاه من التاريخ العسكري تفيد بأنّ «كثافة الهجمات الإسرائيلية الحالية لا تؤثّر على الفصائل (المقاومة) في غزة». وبالتالي، فإنّ «فقط ضربة قاضية، وقويّة، مع توغّل برّي محدود، يمكنه تحقيق الهدف».
بن يشاي اعتبر أيضاً أنّ ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية «غير كافٍ لردع حركتَي حماس والجهاد». وأوضح أنّ جولة التصعيد الأخيرة في الجنوب «بدأت للوهلة الأولى نتيجة العملية السريّة والخاصة للجيش الإسرائيلي (التي كشفتها وأحبطتها المقاومة)»، فمن وجهة نظره، «استغلّت حماس والجهاد الإسلامي ذلك من أجل إرساء معادلات ردعيّة جديدة إزاء تل أبيب». واعتبر أنّه «بينما تقول الأخيرة إنها ستصعّد وتوّسع دائرة هجماتها، فإنّ الذي يحصل على أرض الواقع هو العكس تماماً».
المراسل العسكري رأى أنّ ضرب صاروخ موجّه من نوع «كورنيت» باتجاه حافلة الجنود الإسرائيليين وتفجيرها في عمليّة مصوّرة وموثّقة «دفع بالهيكلية السياسية والأمنية في إسرائيل إلى التفكير مرّات عدّة قبل إصدار أمرٍ لسلاح الجوّ بقصف أهداف تابعة لفصائل المقاومة». وعلى هذه الخلفية، اعتبر أنّه «لا يوجد إسرائيلي على قيد الحياة يمكن أن يتقبّل حقيقة أن معادلات ردعية من هذا النوع يمكن إرساؤها وتعزيزها». وأضاف إن «مستوطني غلاف غزة لا يستطيعون الاستمرار في العيش ضمن نمط حياة من هذا النوع حيث الليالي ليست ليالي والأيام ليست أياماً، وبغض النظر إن كانت الخسائر البشرية غير كبيرة ـــــــ لا يمكن أن تقود السياسات التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية إلى تقبّل العيش في دائرة من المعاناة غير المحتملة». وادّعى أن عملية الجيش (أمس) لا تحقّق هذه الأهداف؛ إذ إنّ قصف البُنى التحتية والمواقع العسكرية بعد تحذيرها وإخلائها، لن يُشعر حماس أو الجهاد بأنهما تدفعان ثمناً غالياً».
وخلص إلى أنّ الجيش الإسرائيلي «يرتكب الخطأ الكلاسيكي المعروف في القاموس التاريخي العسكري بالحرب على دُفعات»؛ حيث يوجّه ضربات قليلة وبطيئة تكون ذات تأثير على قدرات العدو وإرادته. بينما عليه، بحسب بن يشاي، «إشعال حريق هائل يمكن أن يقطع أنفاس حماس، ويجعلها تفكّر باللحظة التي ستأتي بعد ذلك». بمعنى آخر «على إسرائيل أن تجعل حماس تجثو على ركبتيها تتوسّل وقفاً لإطلاق النار، لا أن تخرج كل بضع ساعات وتهدّد وتضع شروطاً للتهدئة من جانبها». واعتبر أنّ كلامه هذا لا ينبع من «مازوشية إسرائيلية أو بسبب تضرّر «الإيغو» الإسرائيلي، وإنّما لأنه في حال استمرت السياسة الحالية على هذا النحو، فإنه يستحيل التوصّل إلى تهدئة أو تحقيق الاستقرار لمستوطني الجنوب».
وختم بما يشي بأنه سيناريو محتمل، قائلاً إنّ «إسرائيل يجب أن تستعدّ لإدخال جيشها إلى قطاع غزة؛ فمن دون وجوده على الأرض، من المستحيل وقف إطلاق الصواريخ، ولا سيما عندما تدفن المنصات تحت الأرض. يجب أن يفهم الجمهور الإسرائيلي هذا ويستخلص النتائج. وبعبارة أخرى... نحن في حرب لا مفرّ منها وفيها خسائر لنا أيضاً».

(أ ف ب )

وعلى هذا الكلام، اتّفق أيضاً زميله المحلّل العسكري في الصحيفة نفسها ،أليكس فيشمان، الذي رأى أنّ «كلاً من إسرائيل وحماس تجدان نفسيهما منذ يومين في رحلة جوية خطيرة إلى اللامكان». لكنّه شدّد على أنّ إسرائيل «حُشرت في زاوية تجبرها على إنزال ضربة شديدة، لأسباب عسكرية وأيضاً لأسباب سياسية داخلية... يمكن أن تستمر الجولة الحالية يوماً أو اثنين، لكن هذا السيناريو (المعقول) قد يتدهور بسهولة إلى حرب شاملة».
وبالرغم من أنّ فيشمان شكّك في أن يتّجه صنّاع القرار في إسرائيل إلى توجيه ضربة عسكرية شديدة في قطاع غزة، أشار إلى أنّ تل أبيب «قد تُقدِم على إلحاق الضرر بمصالح النخب في غزة، مثل قصف أملاك لقادة حماس ووجهاء القطاع».
أمّا في صحيفة «هآرتس»، فقد تساءل المحلل تسافي بريئيل: «هل يجب احتلال غزة أم إيلامها؟». سؤاله هذا لم يكن من أجل التوصّل إلى إجابة حول الطريقة التي يجب فيها إسقاط المقاومة في غزة وإنّما، كما قال، «من أجل إقناع الجمهور الإسرائيلي بأنّ قدرة الردع الإسرائيلية أمام حماس لم تتضرّر». ولفت إلى أنه في ضوء إطلاق المقاومة مئات الصواريخ أمس، فإنّ «الردع» تحوّل إلى مجرّد «مصطلح نظري»؛ إذ بحسبه، «المنطق السائد يقول إنّ منظمة مرتدعة كانت ستكتفي بردّ فعل انتقامي محلي على مقتل ستة من أفرادها، لا أن تحاول إظهار قدرة هجومية واسعة يمكن أن تمسّ بالإنجاز السياسي والاقتصادي المهمين اللذين حقّقتهما»، في إشارة إلى بدء ضخ المساعدات المالية القطرية للقطاع.
وبخلاف ما سبق، رأى المحلل السياسي في صحيفة «معاريف»، بن كسبيت، أن «من غير اللائق الآن انتقاد العملية الفاشلة في خانيونس لأنها جاءت في الوقت الذي تُبذل فيه جهود من أجل التوصل إلى تهدئة». والسبب، بحسبه، لأنّ «عمليات من هذا النوع لا يمكن تنفيذها أثناء الحرب. وبالإمكان تنفيذها في الفترات الاعتيادية، وعندما تنشأ فرصة عملانية لذلك. ومن دون عمليات كهذه، قد يُمس مستوى الأمن الإسرائيلي بشكل خطير».
مع ذلك، رأى بن كسبيت أن «إسرائيل وحماس علقتا في فخ ردع متبادل»، زاعماً أنه «بسبب العدد الكبير للذين يريدون ردع بعضهم البعض في هذه القصة، فإنّ أحداً لم يرتدع من أي شيء». لكنه اعتبر أن كلام نتنياهو عن قوة إسرائيل «الإقليمية العظمى التي تمتلك تكنولوجيا واقتصاد قويين، بينما هناك حماس جائعة... هذا كله لا يعني أحداً في حارتنا (في الشرق الأوسط). لا أحد يكترث لأقوال نتنياهو، فقاسم سليماني (قائد قوة القدس في الحرس الثوري) يواصل تموضعه في سوريا. و(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين يخصص دقيقتين لنتنياهو ليحادثه. في الحقيقة لم تبدُ القوّة الإسرائيلية بهذه الهشاشة منذ وقت طويل».

صواريخ المقاومة vs القبة الحديدية
قالت صحيفة «يديعوت أحرونوت» إنه «في خضمّ جولة التصعيد الحالية تتركّز جهود الفصائل الفلسطينية في غزة على تعقيد المهمة أمام منظومة الاعتراض الإسرائيلية (القبة الحديدة)». يحصل ذلك بينما جرى الحفاظ، في الوقت الحالي، على نسب الإصابات بين الجانبين، وبينما يجري الاستعداد لجولة أخرى من التصعيد.
ومن الملاحظ، بحسب الصحيفة، أنّ حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» تركّزان في الوقت الحالي جهودهما «غير المسبوقة» من أجل التغلّب على «القبة الحديدية بطرق جديدة نسبياً»، من بينها إطلاق وابل من عشرات الصواريخ ـــــــ أحياناً أكثر من 50 صاروخاً ـــــــ على منطقة صغيرة نسبياً في أقل من 10 دقائق. وهو ما حصل مع بداية التصعيد أمس في فترة ما بعد الظهر على مجموعة من المستوطنات في الغلاف الشمالي، وهكذا كانت ليلة عسقلان.
الهدف من ذلك، هو القضاء بسرعة على مخزون الصواريخ الاعتراضية المحمّلة في لحظة معينة في كل قاذفة. وبالفعل، جرى منذ صباح اليوم تغيّر عدد من القاذفات واستبدالها بأخرى. ورأت الصحيفة أنّ «القبة» حافظت على نجاحها حيث اعترضت 120 صاروخاً من بين 400 صاروخ يفترض أن تنفجر في مناطق مأهولة بالسكان. في المقابل، أصاب نحو 20 صاروخاً مباني سكنية وبنى تحتية، وأسفر ذلك عن مقتل شخصين وإصابة مئة، بينهم خمسة بحال الخطر.
منظومة القبة الحديدية، التي تعرّف إليها الإسرائيليون للمرة الأولى في نيسان/ أبريل عام 2011، تبدو الآن مختلفة، وصحيح أنها «ناجحة» حتى الآن. لكن لدى حماس بطاقات لم تخرجها بعد وهي صواريخ من نوع «رعد» المحملة برؤوس حربية ضخمة تزن 150 إلى 200 كيلوغرام من المتفجرات. وهي قادرة، بحسب الصحيفة العبرية، على تدمير شوارع بأكملها في مستوطنات قريبة.