أحرق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بقراره نقل سفارة بلاده في إسرائيل إلى القدس، ملف فلسطين في أدراج الدول الأوروبية. الملف الذي بُني على أساس حل الدولتين لا يبدو مجدياً بعد اليوم في التعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي، في ظل علامات رضى عربية، خليجية بالتحديد، قطعت الطريق أمام دول أوروبا للاستناد إلى مبادرة السلام العربية كما دأبت منذ عام 2002، ما وضع الأوروبيين أمام خيار صعب إذا ما أرادوا رفض قرار ترامب، فضلاً عن أن يبادروا إلى تفعيل المفاوضات بعيداً عن الشريك التقليدي - الولايات المتحدة -، بل بعيداً عن دول عربية لم تعد تتمسك حتى بحل الدولتين.لا تستطيع دول أوروبا أن تتبنى مبادرة السلام الأميركية التي باتت تُعرف بـ«صفقة القرن»، كما لا تستطيع ترجمة رفضها لها بغير بيانات الإدانة. فهي لم يسبق لها أن تحركت في ملف فلسطين بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، ناهيك عن أن الاتحاد الأوروبي عَجِز عن إصدار موقف موحد في شأن خطوة ترامب، في ظل نزاع بين دول الاتحاد الرافضة للقرار من جهة كفرنسا وألمانيا، ودول أوروبا الشرقية مثل المجر واليونان وليتوانيا والتشيك التي تبدي رغبتها في إقامة علاقات أكثر دفئاً مع إسرائيل، ويفكر بعضها في أن يحذو حذو الإدارة الأميركية في الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة للكيان المحتل، من جهة أخرى.
أمام هذا الواقع الذي كانت أوروبا شريكة غير مباشرة في صنعه طوال سنوات بيع الأوهام للفلسطينيين بإمكانية الوصول إلى دولة فلسطينية عبر المفاوضات، وبالاعتماد على الولايات المتحدة كوسيط، يبدو الأوروبيون اليوم في مأزق بفعل الفراغ الذي أحدثه قرار نقل السفارة الأميركية، ومضي ترامب وحلفائه العرب في الصفقة المتوقع إعلانها قريباً، على رغم أنها لم تستوِ على صفيح الشرق الأوسط الملتهب بعد. تنظر بروكسيل إلى موقف الرئيس الأميركي باعتباره انتهاكاً للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. رئيسة قسم فلسطين في مجموعة بلجيكا للاتحاد البرلماني الدولي، غوينيل غروفينوس، تؤكد، في حديث إلى «الأخبار»، أن «ترامب ضرب بخياره الاستفزازي كل جهود السلام المبذولة في المنطقة»، وأنه «يظهر مرة أخرى أنه لا يحترم القانون الدولي، وأن قانون الأقوى هو الذي يفوز»، وأنه «علينا أن نلاحظ أن المجتمع الدولي وأصوات الأمم المتحدة ليست مسموعة لدى السيد ترامب».
عراقيل كثيرة تعترض طريق الدول الأوروبية المنقادة خلف قرار ترامب


ترى البرلمانية البلجيكية أن «الوقت قد حان لأن يبدأ بلدنا عملاً ديبلوماسياً قوياً بدعم عملية السلام ومبدأ الحل التفاوضي والنهائي القائم على دولتين معترف بهما بشكل متبادل، تعيشان بسلام وأمن وفقاً للقانون الدولي». وتضيف: «لقد حان الوقت لأن تعترف بلجيكا بدولة فلسطين». توضح غروفينوس أن «كل شيء يدور حول الحفاظ على الحوار مع الأطراف، لكن بلجيكا والاتحاد الأوروبي لا يشاركان في النقاشات القائمة، ومرد ذلك إلى أن القرار الأميركي أحادي الجانب من شأنه أن يزيد من التطرف لدى جميع الأطراف»، فالقرار «أحادي الجانب» هذا أثبت للفلسطينيين أن طريق التسوية مع الاحتلال لم يخدم قضيتهم، وأنهم باتوا مضطرين للبحث عن خيارات أخرى للحفاظ على حقوقهم، وأعطى في المقابل الاحتلال ضوءاً أخضر لارتكاب المزيد من الانتهاكات.
تعتبر غروفينوس أن «الحل السياسي المتفاوض عليه بدعم من المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي هو وحده القادر على توفير حل مستدام»، مشددة على أن «الوقت قد حان لأن يتحمل الاتحاد الأوروبي مسؤولياته». تشير البرلمانية البلجيكية إلى أن «موقف الحكام العرب لم يمنع ترامب من السير بقراره، وهو أمر واضح تماماً»، في إشارة إلى أن ثمة ما يمكن لأوروبا القيام به في ظل حالة الجمود التي ولّدها قرار ترامب، وانعكاسها في تأخر إعلان بنود «صفقة القرن». كسر هذا الجمود يتطلب وجود طرف ثالث، ربما تستطيع دول الاتحاد الأوروبي الكبرى المتفقة على رفض القرار، ومعها بريطانيا، القيام بدوره عن طريق استعادة زمام المبادرة في المفاوضات، لكن هذه المرة بين الفلسطينيين من جهة، وإسرائيل وأميركا من جهة ثانية، كون الأخيرة باتت طرفاً في الصراع.
وفي شأن القرار الأوروبي غير الموحد، تشير غروفينوس إلى أنه «من المحتمل أن تنقاد بعض الدول الأوروبية لسياسات ترامب مع إسرائيل وتتلاقى معه في فكرة نقل السفارة»، لكن ثمة عراقيل كثيرة تقف في طريق هذه الدول. في رومانيا، كانت الحكومة قد وافقت على مذكرة سرية لنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، من دون استشارة الرئيس. توضح غروفينوس هنا أن «الرئيس الروماني، كلاوس يوهانيس، المنتمي إلى تيار يمين الوسط، يعارض عملية النقل، وهو يقول إن الخطوة مخالفة للقانون الدولي. (وعلى إثر ذلك) طالب رئيسة وزراء بلاده، فيوريكا دانتشيلا، بتقديم استقالتها»، مُذكّرة بأن «الحكومة الرومانية الديموقراطية الاجتماعية كانت عرضة لانتقادات أميركية مكثفة تهاجم نظامها القضائي المثير للجدل وتطالبها بإصلاحه». أما في التشيك، فتلفت إلى أن «الرئيس التشيكي، ميلوس زيمان، تحدث عن نيته نقل سفارة بلاده إلى القدس، غير أن حكومة البلاد أعلنت في الوقت الحالي إعادة فتح قنصلية فخرية، وإنشاء مركز ثقافي في المدينة».

في انتظار المفاوضات
بعيداً عن الخلل السياسي الذي أحدثته خطوة ترامب، ترى غروفينوس أن «الاتحاد الأوروبي وبلجيكا أمام واجب أن يكونوا فاعلين في عملية السلام والتنمية البشرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، و​​التي يشكل الشرق الأوسط جزءاً منها»، منبهة إلى أن «هدفنا ليس فقط مراقبة هذا أو الغضب من ذاك، يجب أن نكثر من التصرف ونقلل من الكلام»، في حين لم يكبح المجتمع الدولي الانتهاكات المرتبطة بالاحتلال على مدى 70 عاماً.
تفكر البرلمانية البلجيكية في «مئات الضحايا المدنيين والمحتجزين تعسفياً واللاجئين»، مشددة على أن «الدبلوماسية البرلمانية يجب أن تكون موجودة لمد الجسور ومحاولة تذليل الصعاب أمام المنظمات غير الحكومية أو المتعاونة معنا. يجب أن ننظر إلى المعاناة الإنسانية، بدلاً من الاكتفاء بتسليم شيء ما، أو إعادة بناء ما تم تدميره من قبل الذين يجدون منفعة في هذا الوضع الراهن». وفي انتظار إعادة العمل للمسارات التفاوضية، وبشكل خاص تلك المرتبطة بعملية السلام التي ترغب أوروبا في رؤيتها، تعرب عن اعتقادها بأن «علينا أن نستجيب للمعاناة الصارخة التي تؤثر على السكان المدنيين، كما هو الحال في قطاع غزة، وعلينا أن نضع في أولوية دبلوماسيتنا إيجاد حل مستدام للجميع».



خريطة الحل البلجيكية
البرلمان البلجيكي كان قد وضع رؤيته لـ«دعم بلجيكا لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط»، وطالب الحكومة الفيدرالية بعدة توصيات تتلخّص، بحسب ما تبيّن غروفينوس لـ«الأخبار»، بما يلي: أولاً) «تأييد إقامة دولة فلسطينية في حدود عام 1967 على أن تكون القدس عاصمة للدولتين، والانضمام إلى المبادرة الفرنسية لإحياء عملية السلام (...)، والوصول أخيراً إلى حل الدولتين عبر التفاوض لمصلحة إنشاء مجموعة دعم دولية، وتنظيم مؤتمر دولي، وتنسيق هذه المبادرة مع التقرير المتوقع للرباعية». ثانياً) الطلب من الاحتلال «وقف تمدد المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة فوراً»، ودعوة السلطات الإسرائيلية «إلى الإسراع في نقل المسؤوليات إلى اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ في المنطقة (ج) وفقاً للاتفاقيات السابقة»، والسعي دولياً لتثبيت «حق الفلسطينيين بحكومة لها حق ممارسة السلطة على كامل الأرض الفلسطينية». ثالثاً) «الاستمرار في دعوة السلطات الإسرائيلية والمصرية لرفع الحصار عن غزة من أجل السماح بإعادة الإعمار الاقتصادي للقطاع»، وأن يصار إلى الإسراع في «تنفيذ الالتزامات التي تم إقرارها في مؤتمر القاهرة بتاريخ 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، والقاضية بزيادة حجم الواردات من مواد البناء إلى قطاع غزة، وأهمية التنفيذ السريع للمشاريع في مجال إنتاج الكهرباء واستغلال مياه الشرب». رابعاً) الدعوة إلى مواصلة التزام إسرائيل بـ«الوفاء بالحاجات الإنسانية للفلسطينيين، بما في ذلك المنطقة (ج) وغزة، وتطوير الأراضي الفلسطينية من أجل السماح في نهاية المطاف بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة يمكن لها أن تزدهر بالكامل». وأخيراً) «التشديد على الأهمية الخاصة للأماكن المقدسة في مدينة القدس»، والتي دعا البرلمان البلجيكي إلى «الحفاظ عليها بحسب الوضع الراهن المقدم في عام 1967».