لم يكن تحذير «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، السفارة الفلسطينية في بلغاريا، من مغبة تسليم الشهيد عمر النايف للسلطات البلغارية أو لإسرائيل، كافياً لمنع اغتياله داخل «حرم» السفارة. كان ذلك في نهاية العام الماضي، لكنه ليس أول حدث، برغم خطورته، يكشف عن «عورة» دبلوماسية كبيرة تصيب جسم السلطة وسفاراتها وبعثاتها التي يتخطى عددها نحو 94 بعثة وسفارة، منها 25 في أفريقيا، و25 في آسيا، و32 في أوروبا، وخمس في أميركا الشمالية، وست في أمريكا الجنوبية، وواحدة في أوستراليا، وفق أرقام إعلامية.قائمة الأحداث ما قبل اغتيال النايف تطول في العموميات وتمسّ الأداء السياسي المغيّب حضوراً وفعالية، فيما تشمل الخصوصيات السفراء وطواقم السفارات والممثليات وعمليات بيع المنح الجامعية وكيفية إدارة ملفات التأشيرات والإقامات وكذلك الصفقات التجارية، وصولاً إلى حمامات السباحة والتسهيلات اللوجستية في البلد المضيف. فوق ذلك كله، أعلن أن 200 مليون دولار تخصصها وزارة الخارجية الفلسطينية من الموازنة العامة سنوياً كمصروف على هذا «الجيش» من السفارات والموظفين ذوي الرواتب العليا، الذين لا يعرف تحديداً ما هي «إنجازاتهم» من سيل «إنجازات» السلطة!
بجانب جريمة الاغتيال، ثمّة عناوين كثيرة تختص بالسفارات الفلسطينية، أبرزها سوء المعاملة، وهي الشكوى الدائمة في بلدان كثيرة. في جولة على صفحة الناشطة الحقوقية فاطمة جابر (زوجة الجريح والأسير المبعد من فلسطين والأردن عدنان جابر)، على «فايسبوك»، تشتكي سوء معاملة السفير الفلسطيني لدى صوفيا، أحمد المذبوح، وبعض موظفيه.
وقالت جابر في رسالة إلى «الخارجية»: «... أطالبكم بعزل هذا السفير الذي فشل طيلة فترة عمله، التي بلغت حتى الآن 7 سنوات، في أن يكون مظلة فاعلة وقاسماً مشتركاً للجالية الفلسطينية في بلغاريا، ولم يكن طيباً ومقنِعاً مع أبناء شعبه، بل يهمه المنظرة والتصوير أمام الأجانب...». ثم تبدأ بشرح كل ما تعرضت له نظير تبنيها للاجئين الفلسطينيين القادمين من سوريا ويحجزون في مقدونيا.
في أحسن الأحوال، يظهر أن أي سفارة فلسطينية تفلت من عقال الفساد لا شك تقع في شرك سوء الأداء والتقصير، كالعجز عن تلبية احتياجات الجالية أو اللاجئين، أو حتى في استصدار جواز سفر بات في أفضل الأحوال يحتاج إلى شهرين ليصل إلى يد طالبه.
حتى بعض الدول العربية التي كانت تحسن معاملة الفلسطينيين، تحديداً الجزائر التي يكفي أن يوضع اسم الفلسطيني في المطار لدخولها، أوقفت عقب الفضائح التي طاولت طواقم السفارة الفلسطينية هناك دخول مواطني الأخيرة إليها منذ نحو ثلاث سنوات (مستمر إلى اليوم)، وطبعاً لم تتدخل السفارة لأنها جزء من المشكلة، فضلاً عن إلغاء نشاطات مشتركة كثيرة. بجانب ذلك، كانت السفارة في الجزائر نموذجاً لسوء أداء الدبلوماسية الفلسطينية وتورطها، وقبل سنوات عدة، رُحّل عدد من موظفيها عقب فضائح بيع المنح الجامعية، التي كانت تقدم للناجحين بمعدل منخفض في الثانوية العامة في أي تخصص مقابل 1500 دولار أميركي.
حتى في دول لها علاقات جيدة بالسلطة، يحتاج الفلسطيني في ألمانيا مثلاً، إلى عام كامل كي تجدد له السفارة جواز السفر، وهو ما يعوق حتماً تحرك أي فلسطيني من البلاد ومصالحه. بجانب ألمانيا، يورد إعلاميون أن سفير السلطة في فرنسا، سليمان الهرفي، تجاوز سن التقاعد منذ عشر سنوات وتجاوز عمره السبعين، وكان سابقاً سفيراً في تونس واتصف بـ«سمعة سيئة» هناك إلى أن اعتدى في 2014 على قيادات فصائلية (راجع الأخبار في 23‏/04‏/2015)، لكن السلطة «حلّت» المشكلة بإرساله إلى دولة أهم!
بعيداً عن أوروبا وأفريقيا، السفارة الفلسطينية في ماليزيا ليست أوفر حظاً، فبرغم التغييرات في طاقمها عقب عام 2011 لم ينته التقصير أو استدعاء الانقسام الداخلي عبر التمييز بين أبناء الجالية على أسس فصائلية وحزبية، إلى حدّ بات الطالب يقال له: «خلي حماس أو الجهاد والشعبية تنفعك»، وهي الجملة نفسها التي قد يتلقاها الطلاب الفلسطينيون في إيران، حيث يخافون التعامل مع السفارة التي ستبحث بالتأكيد عن الجهة التي قدمت إليهم المنحة الدراسية.
بالعودة إلى ماليزيا، لم تحضر السفارة مطلقاً في تنظيم عمليات سفر الشباب حتى نمت هناك «مافيات» تعمل على الاحتيال عليهم وبيعهم مقاعد دراسية يتبين أنها غير موجودة، مع العلم بأن مصادر أكدت أن الملحق الأمني في السفارة يحتفظ بمقاطع فيديو عن إسقاطات لشباب فلسطينيين، ولا يتورع عن عرضها أمام غير المعنيين. وفيما تعجّ سفارات فلسطينية بأعداد كبيرة لموظفين في دول ليس فيها جالية كبيرة، في 2011 لم يكن في السفارة في ماليزيا سوى السفير والسكرتيرة والملحق الثقافي والملحق الأمني لخدمة طلبة ومهاجرين عددهم فاق الألف.
لدى السلطة نحو 94 بعثة وسفارة في خمس قارّات

واحدة من مشاهد السفارة الفلسطينية لدى كوالالمبور أن الملحق الثقافي اصطحب زوجته لتناول العشاء في مطعم «سوى ربينا» القريب من نافورة العاصمة، فيما كان القائمون على الخدمة اثنين من طلبة الدكتوراه في العلوم السياسية (تحديداً في الجامعة العالمية الإسلامية) قادهما الحظ العاثر ليجعل منهم «غارسونات» في المطعم.
بالاتجاه بعيداً إلى فنزويلا وفضيحة «منحة ياسر عرفات» الشهيرة، حيث كان التلاعب والتزوير الأكبر على قائمة المنحة التي شملت طلاباً لم يكونوا حاصلين على الثانوية العامة أصلاً، وآخرون منحوا مقعداً في كلية الطب مع أنهم من تخصصات أدبية. برغم كل الضجيج الإعلامي آنذاك وضربات السبق الصحافي، مررت وزارتا الخارجية والتعليم في السلطة، الفضيحة، كأن شيئاً لم يكن. حتى البيان الصحافي التوضيحي غاب، ولم تجب «الخارجية» عن معنى حرمان من يستحق وإعطاء من لا يستحق. كذلك بقيت السفيرة ليندا صبح في منصبها في فنزويلا دون التلويح الشكلي حتى بالنية في إجراء تحقيق حول ما حدث مقابل انزعاج حكومي وإعلامي هناك.
وسبق ذلك في 2010 فضائح فساد شبيهة بسفارات فلسطينية في مصر ورومانيا وروسيا، بلغت حدّاً لم تستطع وكالات محلية مقربة من السلطة تجنب الحديث عنه.
أما في صربيا، فسجلت فضيحة من نوع آخر، كان بطلها السفير محمد نبهان، المتهم بتزوير «فيز» للاجئين سوريين وفلسطينيين. وقد نشرت حيثيات الفضيحة على صحف رسمية حكومية وترجمت إلى عدة لغات، لكن السفارة حولت الموضوع إلى أمر شخصي. ومع غياب ردّ رسمي من «الخارجية»، أصدر نبهان بياناً طويلاً استحضر فيه «مآثره وبطولاته» منذ 1966، وذكّر بأنه «عميد السلك الدبلوماسي» وأن علاقاته ممتازة مع الرئيس الصربي والحكومة، دون أن يقدم دفوعاً منطقية وموضوعية، باستثناء قوله إن القيادي المفصول من حركة «فتح»، محمد دحلان، هو «وراء الفضيحة».
ولم يترك نبهان منصبه، على عكس نظيره في القنصلية الفلسطينية في دبي، الذي اضطر إلى مغادرة منصبه في 2008 عقب فضيحة الفساد، وهو اللواء سليم أبو سلطان الذي أسس القنصلية هناك عام 1995، لكنه استمر في اعتماد «الدائرة السياسية لمنظمة التحرير» بقيادة فاروق القدومي كمرجعية له، الأمر الذي أغضب محمود عباس فأجبره على التخلي عن المنصب، كما تقول بعض الروايات التي تفسر ترك أبو سلطان منصبه.
في الصورة البعيدة، تبقى وزارة الخارجية الحاضر الغائب في حصاد الموازنة والامتيازات وكذلك المتابعة والتقويم والتحقيق، وهو ما يعني أن على أحد ما أن يتشجع ويكشف ما وراء جبل الجليد، ولن يكون أقل من «ويكيليكس» فلسطيني بامتياز.