في أحد المشاهد الشهيرة من المسرحية الخليجية الكلاسيكية «باي باي لندن»، يقوم الممثّل الكويتي الراحل عبد الحسين عبد الرضا بتلاوة كلّ الكلمات والأرقام الإنكليزية التي تعلّمها في المدرسة في محاولة بائسة منه لجذب امرأة بريطانية في بهو الفندق الذي يمكث فيه في لندن. في أحد المشاهد الأخيرة من المسرحية الانتخابية الأميركية «باي باي بايدن» يقوم الرئيس الأميركي الحالي، أقوى رجل في العالم وقائد أقوى جيش في العالم، بتلاوة متلعثمة لكلمات في رأسه لم تُترجم جُمَلاً على لسانه في محاولة بائسة منه لجذب أصوات الأميركيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة خريف هذا العام. يلي المشهد الأوّل سلسلة من المشاهد الكوميديّة والتراجيديّة التي تصف وضع العالم العربي الحزين في عام 1981، ومذّاك. أمّا المشاهد التي تلت المشهد الثاني فلا تنقصها لا الكوميديا ولا التراجيديا ونشهد تطوّر أحداثها هذا الأسبوع. ليس من المبالغ فيه القول إن عمليّة خلع جو بايدن من الانتخابات الرئاسية التي انطلقت فور مغادرته مسرح المناظرة التلفزيونية الرئاسية مع ترامب هي عبارة عن مسرحية، فهي تستوفي كل شروط الفن السادس. فالتنسيق الكوريغرافي الذي اتّبعته البكائيّات التلفزيونية والأقلام الراقصة على نغمة «جو بايدن حبيبي، ولكن…» لا تحصل تلقائياً أبداً، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية. حين يتحرّك الجميع في واشنطن من صنّاع القرار والرأي وفق إيقاعٍ واحدٍ فهذا يعني أنهم السيناريو المعتمد الذي قد تمّ تخطيطه وترويجه مسبقاً. لم يتفاجأ أحدٌ بأداء جو بايدن في المناظرة الرئاسية مقابل دونالد ترامب، فعلامات التدهور في القدرات الذهنية، والتّحكّم ببعض وظائف الجسم، للرئيس الأميركي واضحة ومتسارعة منذ حين. لكنّ السياسة والساسة في عاصمة الإمبريالية لا يتحرّكون بالسرعة نفسها، وإلّا لكانوا تداركوا سيناريو الترهّل في البيت الأبيض قبل أن يصبح استعراضاً محرجاً صوتاً وصورةً. قد تكون الجوقة في واشنطن التي غسلت يدَيْها من بايدن وفقاً لتعليمة صدرت أخيراً للإطاحة به تسير وفق الأجندة الحزبية للحزب الديموقراطي، لكنّ الإحراج الرئاسي أخرج أخيراً أصواتاً «ناتويّة» تتساءل عن حكمة سير دولها خلف قيادة واشنطن إن كان أفضل ما يمكن أن تنتجه هو الثنائي بايدن - ترامب.
سيناريو الإطاحة بجو بايدن بعد انتهاء الانتخابات التمهيدية الحزبية كان دائماً محتملاً، وذلك لأن قيادة الحزب الديموقراطي كانت تفضّل الإحراج الناتج عن سلوك بايدن على الإحراج الذي قد ينتج في صناديق الاقتراع في الانتخابات التمهيدية. الإطاحة بترشيح بايدن اليوم تسمح لقيادة الحزب الديموقراطي بتجاوز العائق الديموقراطي وإسقاط مرشّح من فوق لمواجهة دونالد ترامب في تشرين الثاني القادم. لقد سبق أن أحرج جمهور الحزب قيادته عندما كانت أكثريّته تتوجّه نحو ترشيح بيرني ساندرز عن الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، لكنّ القوانين الداخلية للديموقراطيين سمحت لهم بتفادي المحنة وقتها وتفضيل هيلاري كلينتون من خلال الأصوات التفضيلية للمندوبين الحزبيين «السوبّر». اليوم لن يواجهوا إحراجاً مثل هذا مع جمهورهم إلّا إذا قرّروا إسقاط هيلاري كلينتون، المكروهة أميركيّاً وكونيّاً، مجدّداً عليهم، وهو أمرٌ مستبعدٌ لكنّه لا يستحيل على قيادة حزبٍ لم تستطع أن تجد بديلاً لجو بايدن وكأنّه فاجأها بتقدّمه في العمر.
بدأ طرح أسماء، أو بالأحرى هويّات، البدائل حتّى قبل تنحّي بايدن عن الترشح. ويتم التداول بأن هناك شخصين فقط قادرين على إقناع بايدن بالتّنحي وهما زوجته جيل والرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. أمّا الاستراتيجية الديموقراطية البديلة المطروحة لهزيمة ترامب فهي أن يتمّ ترشيح امرأة (نائبة الرئيس كامالا هاريس أو حاكمة ولاية ميشيغان غريتشن ويتمر) أو مرشّح من الأقليات العرقية (السيناتور عن ولاية جورجيا رافاييل وارنوك)، وإن كان لا بدّ من ترشيح رجل أبيض فليكن مثليّاً (وزير النقل بيت بوتيغيغ أو حاكم ولاية كولورادو جاريد بوليس)، المهمّ أن يكون طليق اللسان. لكن كما شاهدنا في السنوات الأربع الماضية لا يهمّ من يسكن البيت الأبيض، قد يكون ساكنه غير قادر على النطق بجملة مفهومة لكن لن يغيّر ذلك قيد أنملة في مسار سياسة واشنطن، ولن يتغيّر ذلك مهما حملت لنا فصول المسرحية القادمة.
ممّا لا شكّ فيه هو أنّ الولايات المتّحدة تحبّ المسرح. استعراضات مسارح شارع برودواي النيويوركي تبقى الرائدة عالمياً، وفي يومٍ ليس ببعيد كانت هوليوود تحوّلها إلى أفلام ضخمة، عندما كانت هوليوود لا تزال تنتج أفلاماً قابلة للمشاهدة. لكن لا خشبة تعلو على خشبة مسرح السياسة في بلاد العم سام. المشهد كلّه استعراض، بعضه تراجيدي وبعضه كوميدي. المشهد سوف يزداد تراجيديا وكوميديا، لكنّه حتماً لن يزداد ديموقراطية. الخيار الديموقراطي الوحيد المتاح اليوم للمشاهد هو نكهة الفشار، زبدة أم جبنة أم ملح؟

* من أسرة «الأخبار»