كلّ مَن يتفحّص بعمقٍ ودقّة ما حدث في كفر قاسم في 29 أكتوبر 1956 سيدرك أنّ ما يجري اليوم في غزّة ليس سوى حلقة أفظع وأكثر بربريةً مِن سلسلة مِن المجازر الإسرائيلية التي اتّسمت ببرودةٍ تامّة وقلبٍ جامد وعيْن مُغمَضة لا تميّز بيْن الرجل والمرأة والطفل. فكل ما هو فوق أرض فلسطين، كلّ حيٍّ وكلّ جامدٍ، كلّ متحرّكٍ وكلّ ثابت، تنبغي إزالته مِن الوجود بالكامل أو دفعه إلى خارج الأرض الموعودة لشعبها المختار.والذي يقرأ - مثلاً - شهادة عبد الرحيم سليم طه (أبو يزن) مِن سكّان كفر قاسم كما ترد في كتاب سامية حلبي بعنوان «حول رسم مجزرة كفر قاسم»، يجد أنّ ما حلّ بأهلها ليس سوى «بروفة» لِما يجري اليوم في غزّة هاشم وغزّة القديس بورفيريوس. سمع أبو يزن أحدَ الجنود في ذلك اليوم الرهيب يصرخ بزملائه: «احصدوهم!»، وسمع النساء يتوسّلن قائلات لهنّ: «نرجوكم، لا تطلقوا النار علينا فنحن نساء!». «فحصَدوا» منهنّ ثلاث عشرة، بينهنّ حوامل، ومِن الرجال والأطفال ستة وثلاثين، هذا سوى الجرحى وذوي الإعاقات الدائمة.
نقف عند كلمة «احصدوهم!» لنجد أنّ هذا المصطلح يتكرّر اليوم على ألسِنَة سياسية وعسكرية إسرائيلية على شاكلة «جذّ العشب أو الحشائش» ولربما كي يُلطّفوا الأمر لأصحاب الحدائق الغنّاء في دنيا الغرب. ومهما يكن، فقد أنزلونا نحن أهل فلسطين مِن المملكة الحيوانية إلى المملكة النباتية السفلى. وإذا ظنّ مطبّعو العرب اليوم أن إسرائيل لها فيهم رأيٌ آخر فهم واهمون.
يقيني أن هذا الكلام ينبع، في حيّز كبيرٍ منه، مِن تدهورٍ سحيق في الاستشراق الإسرائيلي الذي لا تزيده الأيام إلا عمقاً. ما هي خلفية هذا التدهور على المستوى الأيديولوجي؟ مِن المعلوم أنّ حكومات إسرائيل، منذ حكومة مناحيم بيغن في الثمانينيات، تبنّت علناً أطروحات الصهيونية التصحيحية التي وضع أسسها فلاديمير جابوتنسكي (توفي 1940) وخصوصاً، وفي هذا السياق، دعوته الشهيرة إلى يهود فلسطين: «ينبغي علينا أن نكون خلف جدار حديدي لا يمكن لأهل الأرض الأصليين أن يقتحموه». وهكذا نقل جابوتنسكي اليهود من الغيتو المُستباح إلى القلعة الحصينة، كما أن أرييل شارون بنى هذا الجدار بالفعل في أيامنا هذه.
رأيي أنّ هذا الجدار الحديدي أضحى اليوم جداراً يحيط بعقول أعضاء حكومة إسرائيل الحالية فيمنعهم مِن فهم محيطهم، فلسطينياً كان أو عربياً، وهو الجدار الذي أودى بهم اليوم إلى مأزقٍ مِن التخبّط والعشوائية الذي لم يشهد الكيان المصطنع له مثيلاً منذ ولادته القيصرية. وإذا سلّمنا بأنّ منظومة الاستشراق الإسرائيلي هي أحد أهم مكونات هذا الجدار العقلي ومرتكزاته العنصرية الاستعلائية ونوافذه على محيطه، من الضروري أن نتفحّص هذا الاستشراق بسرعةٍ في هذا المقام وأن نعقد له في المستقبل القريب مؤتمراً دولياً واسع النطاق يلِمّ بجوانبه كافة.
واذا استعرضنا هنا، وبإيجازٍ شديد، تاريخ هذا الاستشراق، نجد أنّ الجيل الأوّل مِن مستشرقيهم كانوا يعرفون العالم العربي عن كثب، والبعض منهم درس في جامعات لبنانية ومصرية. ولعلّ الأبرز مِن بينهم في حقل تاريخ العرب الوسيط هو شلومو دوف غويتاين (1900-1985) محقق البلاذري ووثائق «الكنيزه». كان بالإجمال رصيناً في أحكامه وضليعاً بالعربية، ولعل العديد مِن أبناء ذاك الجيل قد تربّى تحت تأثير تراث الفيلولوجيا الألماني الذي لم تكن الأيديولوجيات المختلفة قد فعلت فعلها فيه بعد.
وتبع هذا الجيل أجيالٌ مِن المستشرقين لا تعرف العالم العربي سوى على ظهر دبابة أو مِن خلال نظامٍ قمعي لسحق الفلسطينيين، فالعديد منهم عملوا كمستشارين في هذا النظام أو حتّى كضباطٍ في الجيش الإسرائيلي. وقد تناولتُ في مقالاتٍ سابقة لي بعضَ أوجه هذا الاستشراق وخصوصاً في ما يتعلّق بالقدس الشريف. ولي أن أنوّه هنا فقط بما يجده المرء حين يتناول هؤلاء موضوعَ المصادر العربية الإسلامية المبكرة، إذ لا همّ لهم سوى إثبات أنّ هذه المصادر متناقضةٌ ومبعثرة ولا يمكن أبداً الوثوق بصدقيّتها. هل أبالغ إذا قلتُ إنّ تلك المصادر المشوّشة تعكس ذهنية أحفاد مَن كتب تلك المصادر كما يتخيّلها هؤلاء المستشرقون؟
ليس في الأمر مبالغة على ما أظنّ إذا عرّفْنا الاستشراق الإسرائيلي على نطاقٍ أوسع مِن النطاق الأكاديمي المحض فتأمّلنا ذاك الجهل العميق بالعرب والاستعلاء الذي يواكبه في المناهج المدرسية الإسرائيلية. هنا نقع على العجب العجاب، فلو بقيت مِن الاستشراق الأكاديمي ذرّةٌ مِن موضوعية أو منطق أو تحليل نجد تلك الذرّة قد انشطرت بالكامل في الكتب المدرسية. أحيلُ القرّاءَ هنا إلى كتاب الأستاذ سمير شاهين بعنوان «العرب في مناهج التعليم الإسرائيلية»، وهو كتابٌ يستحقّ أنْ ينتشر على أوسع نطاقٍ ويُترجمَ إلى لغات الأرض.
مِن هذا الكتاب المهمّ الذي يجب أن يقرأه المطبّعون، أقتطف هنا لمحةً أو لمحتين فحسب. أولى اللمحتين، هي المساحة التاريخية قديماً وحديثاً في الشرق الأوسط التي يتصدّرها الوجود اليهودي في الأزمنة كافّة. فتاريخ المنطقة بأسره في هذه الكتب المدرسية هو تاريخ تفاعل اليهود مع الأغيار وخصوصاً مع «قبائل البدو من العرب» الذين يهاجمون الوجود اليهودي عبْر الزمن ويرتدّون على أعقابهم خائبين. وإذا أردتَ أن تتعرّف إلى «العربي» يصفه لك الكتابُ بدقّةٍ تغنيك عن كلّ ما عداها: «طويل القامة، عريض المنكبين، يلمع في عينيه بريق الغضب، وجهه قاسٍ، وجبينه ضيّقٌ وصغير، وشاربه مدبب يرتفع على شكل قرنين، عيناه صغيرتان تدوران دوماً في محاجرهما، وأنفه نسري معقوف» (شاهين ص 107). أمّا ما يرد فيها عن النبي العربي أو عن الإسلام أو عن المرأة العربية... الخ، فدونكم هذا الكتاب، الذي لربما قد تصنّفه المكتبات العامة تحت صنف الكوميديا السوداء.
هذه الحرب التي لا تعرف لها إسرائيل لا حلّاً ولا مخرجاً ولا هدفاً، وهذا الإخفاق الهائل في استخباراتهم، وهذا الجهل المطبق الذي يجعلهم يمدّون اليد إلى «قبائل غزّة»، هذه في جزءٍ كبير منها على ما أعتقد ظواهر مِن الجهل الحديدي الذي يلفّ إسرائيل، حكومةً ومجتمعاً، الجهل الذي قوامه استعلاء جابوتنسكي وهزالة استشراقهم. والله أعلم.
* مؤرّخ