النتائج التي خرجت مِن صناديق الاقتراع عشيّة التاسع مِن حزيران 2024 لاختيار 720 نائباً أوروبياً مِن 27 دولة عضواً في الاتّحاد الأوروبي، لمْ تكن مفاجئةً لأحد. فرغم الصعود الكبير لِمَا يسمّى بالأحزاب اليمينية المتطرّفة، ما زالت الأحزاب اليمينية التقليدية والاشتراكية الاجتماعية، واليمينية الوسطية، التي لا تقلّ يمينيةً عنها مهما تعدّدت تسمياتها، تشكّل الأكثرية في البرلمان الجديد. لذلك، إنّ موازين القوى التي أفرزتها صناديق الاقتراع ستسمح لهذه الأكثرية السابقة بالاستمرار بالتوجّهات السابقة عبْر فوزها بما يزيد عن 400 مقعد، ما يتيح للألمانية الأطلسية أورسولا فون دير لاين الحصول على ما يكفي مِن الأصوات للفوز بولاية ثانية كرئيسة للمفوضية الأوروبية شرط موافقة قادة الدول الأعضاء الــ27 الذين يشكّلون المجلس الأوروبي. وهي موافقة حسمها عملياً رؤساء الدول والوزراء الأوروبيون المجتمعون في بروكسل في قمّة غير رسمية نهار الإثنين 17 حزيران. نظرياً، إذاً، لا جديد تحت الشمس. خاصّة أنّ البرلمان الأوروبي محدود الصلاحيات (أهمّها الموافقة، أو بالأحرى البصم، على الميزانية التي يقرّرها المجلس الأوروبي والمفوضية). أمّا السياسة الخارجية والأمنية المشتركة (CFSP)، فهي الأُخرى ما تزال خارج صلاحيات البرلمان وتُرسَم في واشنطن وفي قيادة الحلف الأطلسي كما حدثَ في حرب البلقان، والحرب على ليبيا، وكما هي الحال اليوم بالنسبة إلى حرب أوكرانيا.
الواقع أنّ أهمّية الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة هي في كونها تجاوزت البرلمان الأوروبي لتلعب، مِن حيث لم تقصد، دور الصاعق في تفجير عدد مِن القنابل الموقوتة التي قد تؤدّي، على المدى المتوسّط، إلى نسف الاتّحاد الأوروبي مِن أساسه، أو على الأقل، تغيير بنيته الحالية القائمة على تسلّط غلاة الليبراليين والتكنوقراط غير المنتخبين على مفاصلها، وعلى العمل الدؤوب للقضاء على الأمم المكوّنة للاتّحاد لمصلحة المناطق والأقاليم. هذه السياسة القائمة على التقشّف، والعولمة المتطرّفة، والقضاء على ما بقي مِن قطاعٍ عامّ خاصّةً في مجال التعليم والصحّة والرعاية الاجتماعية، باءت بالفشل ولم تؤدِّ إلّا إلى الحطّ مِن مكانة الاتّحاد الأوروبي كمشروعٍ محتمل لقطبٍ دولي جديد تمّ وأده في المهد. هذا الإفلاس هو الرسالة الأولى والأهمّ التي وجّهها الناخبون الأوروبيون إلى حكّامهم، أي رفض التبعيّة للمركز الأميركي ورفض الانخراط في حربه ضدّ روسيا اليوم والصين غداً والعودة إلى المشروع الأساسي للوحدة الأوروبية كما راود ديغول، أي وحدة الأمم والشعوب لا وحدة السوق والتكنوقراط، كما آل إليه الأمر اليوم.
على ضوء ما نجم عن هذه الانتخابات، ليس مِن المبالغة القول إنّ فرنسا وألمانيا، بصفتهما أكبر دولتين أوروبيتين، وبصفتهما الدعامة التاريخية للمشروع الأوروبي ومحرّكه الطبيعي، باتتا اليوم، خاصّة بعد أربع سنوات مِن خروج بريطانيا منه، أمام مفترق طرقٍ مصيري. فالحلم الأوروبي كقطبٍ مستقلّ على الساحة الدولية وكواحة سلامٍ وازدهار تحوّل إلى كابوس. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية تتوالى الواحدة تلو الأخرى في معظم دول الاتّحاد، وشبح الحرب الأهلية يلوح في الأفق في أكثر مِن بلد، والحرب النووية تقرع طبولها ولم تعد مجرّد سيناريو هوليوودي مِن نسج الخيال.
كلّنا يذكر التصريحات المقزّزة وغير الديبلوماسية التي أدلى بها جوزيب بوريل، في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2022، والذي كان يشغل آنذاك، وما زال، منصب نائب رئيس المفوضية الأوروبية والممثّل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، أمام رهط من الديبلوماسيين الأوروبيين المرشّحين لتولّي مناصب عليا في الاتّحاد الأوروبي في المعهد الديبلوماسي في مدينة بروج البلجيكية. في هذه المحاضرة، لم يتردّد بوريل في وصف الاتّحاد الأوروبي بـ«الحديقة» المحاطة بـ«الأدغال» التي مِن الممكن أنْ تسوّل لها نفسها أن تزحف عليها وأنْ تغزوها! لقد بنى الأوروبيون «حديقة كل ما فيها يعمل. إنها أفضل نموذجٍ مِن الحرّية السياسية والازدهار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي الذي تمكّنت البشرية مِن تحقيقه في آنٍ معاً».
الناخبون الأوروبيون رفضوا بصراحة العيش في هكذا حديقة والكثيرون منهم يضعون في رأس مطالبهم الخروج منها. البريطانيون كانوا السبّاقين إلى ذلك عندما صوّتوا بأكثرية مريحة على الهروب منها ومِن بيروقراطييها وتكنوقراطييها.
وحتى مارين لوبن، الزعيمة الفعلية لحزب التجمّع الوطني، الذي حصد أكبر عدد مِن المقاعد المخصّصة لفرنسا داخل البرلمان الأوروبي الجديد، والتي تُرشّحها استطلاعات الرأي للفوز بأكثرية نسبية، لا بل مطلقة، في الانتخابات القادمة، ترفض مقولة بوريل وتعلن -في مقابلة مع صحيفة «بيريوديكو» الإسبانية- أنّ «الاتّحاد الأوروبي أصبح يشكّل خطراً على الدول الأعضاء، ما يشير إلى ضرورة إعادة هيكلته». وأضافت: «أصبح يشكّل خطراً على جميع الدول الأوروبية... الاتّحاد الأوروبي ليس أوروبا، ولكنه مجرّد شكلٍ خاصّ مِن التعاون القارّي الذي أظهر، على مدى عقود عدّة، أنه لا يجلب سوى فائدة قليلة لاقتصاداتنا وبلداننا».
الزلزال الذي فجّرته الانتخابات الأوروبية ستكون له هزّات ارتدادية عميقة كما ذكرنا بالنسبة إلى فرنسا وألمانيا، واستطراداً بالنسبة إلى مستقبل الاصطفاف الأوروبي في النظام العالمي الجديد الذي بدأ يتبلور منذ سنوات، وخاصّة مع عودة الحرب الباردة تدريجياً ابتداء مِن خطاب بوتين المفصلي في ميونيخ عام 2008 مروراً بالحروب الملوّنة والربيعيّة منذ 2010 والانقلاب الأميركي في أوكرانيا عام 2014 ثمّ عام 2022.
بالنسبة إلى فرنسا، ومَهْما تكن نتائج الانتخابات النيابية في السابع من تموز/يوليو، فستشكّل ضربةً قاضية للجمهورية الخامسة التي أسّسها الجنرال ديغول على أنقاض الجمهورية الرابعة التي تميّزت بعدم الاستقرار الحكومي وبالحروب الاستعمارية (الهند الصينية، الجزائر، وعدوان السويس والدعم المطلق للكيان الصهيوني ووصول ذلك إلى حدّ مدّه بالسلاح النووي).
ومِن المتوقّع أنْ يفوز حزب التجمّع الوطني بزعامة مارين لوبين بأكبر عددٍ مِن المقاعد، والتالي بترؤّس الحكومة المقبلة حتّى نهاية ولاية ماكرون في منتصف عام 2027. ولكنّ هذا السيناريو لن يتحقّق إلّا إذا نال الحزب أكثريةً مطلقة تعطيه كامل الصلاحيات لفرض برنامجه. وفي هذه الحال، سيضطرّ ماكرون إلى التعايش معها وتحمّلها لمدّة سنة يستطيع بعدها حلّ البرلمان مرّة ثانية. وقد أعلن جوردان بارديلا، مرشّح مارين لوبين لشغل منصب رئيس الوزراء، أنه سيرفض هذا المنصب في حال حصول حزبه على مجرّد أكثرية نسبيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ مارين لوبين هي ابنة جان ماري لوبين مؤسّس الجبهة القومية العنصرية المعادية للمسلمين ولليهود، وقد قامت بالانقلاب عليه وتغيير اسم الحزب وتعديل برنامجه الانتخابي إلى حدّ التماهي مع اليمين التقليدي باستثناء مناهضة الهجرة ومعاداة المسلمين. وقد تبنّت، بعد السابع من تشرين الأوّل، مواقف مؤيّدة بالمطلق للسياسة الإسرائيلية، ما جعلها تستميل أصوات اليمين الصهيوني وكان آخرهم سيرج كلارسفيلد، أحد أقطاب اللوبي الصهيوني الذي نصّب نفسه مطارداً لبقايا النازيين وقد أعلن عن استعداده للتصويت لحزب لوبين بسبب تأييدها لـ«اليهود ولإسرائيل».
أمّا الوعود الانتخابية حول الخروج مِن الاتّحاد الأوروبي ومِن الحلف الأطلسي ومِن التحالف العضوي مع الولايات المتّحدة والموقف الموالي لروسيا، فقد اختفت بسحر ساحر مِن برنامجها، على الأقلّ حتّى وصولها إلى قصر الإيليزيه. في كلّ الأحوال، ومَهْما تكن نتائج الانتخابات، فإنّ فرنسا ستدخل دوامةً مِن الفوضى وعدم الاستقرار ستعيدها إلى الجمهورية الرابعة وتقلّباتها.
عندما عَمَدَ ماكرون إلى حلّ البرلمان، أسرّ لبعض مستشاريه القلائل أنه أراد أنْ يرمي قنبلةً انشطارية في الملعب السياسي لكي لا يخرج أحدٌ منه سالماً. والجبهة الشعبية اليسارية وُلدت منقسمة على نفسها، خاصّة بسبب الموقف مِن غزّة وحرب أوكرانيا. أمّا اليمين التقليدي الديغولي، فمِن المتوقّع أنْ يختفي عملياً مِن اللعبة خاصّة أنّ مارين لوبين استولت على تراثهم التاريخي، إذ إنها لا تترك مناسبةً إلّا وتدّعي فيها الاقتداء بديغول.
ألمانيا ليست بأحسن حالٍ مِن جارتها الفرنسية. فالائتلاف الحاكم الذي يقوده المستشار شولتز وحلفاؤه الخضر والليبراليون، تلقّى، هو الآخر، هزيمةً نكراء سترغمه، مَهْما كابر، على إجراء انتخاباتٍ مبكرة سيفوز بها حزب مركيل.
كلّ هذا لا يبشّر بالخير بالنسبة إلى مصير الاتّحاد الأوروبي. وقد تأتي الضربة القاضية مِن «الحليف» الأميركي مع عودة ترامب المتوقّعة إلى البيت الأبيض ومع الهزيمة المؤكّدة للنظام الأوكراني.
* رئيس تحرير مجلة «2A magazine»