المتغيّرات الكبرى التي يشهدها العالم لا تقتصر على التحوّلات في موازين القوى بيْن الغرب الجماعي المنحسر النفوذ وبقيّة القوى غير الغربية الصاعدة فقط، بل تتعدّاها لتشمل عمليات إعادة تشكّل للمشهد السياسي الداخلي في بلدان الأوّل. لقد كشفت انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة نموّاً لافتاً لتيّارات اليمين النيوفاشي في دولٍ كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا. أمّا في الولايات المتّحدة، فإنّ استطلاعات الرأي ودراسات عدّة مراكز متخصّصة بالسياسة الداخلية والعمليّات الانتخابية، تؤشّر، بمجملها، إلى ديمومة وحيويّة الظاهرة الترامبية، النيوفاشية بدورها، وترجّح احتمال عودة مرشّحها إلى السلطة في الانتخابات الرئاسية القادمة.أظهرَ نموُّ هذه التيّارات، واتّساعُ دائرة مؤيّديها مِن الطبقات الشعبية المتضرّرة مِن العولمة النيوليبرالية إلى قطاعاتٍ معتبرة مِن الطبقات الوسطى وشرائحها العليا، وكذلك إلى الطبقات الثريّة وعالم الأعمال، قصورَ التحليلات التي تركّز على التحليلات الاقتصادية-الاجتماعية في محاولة تفسير هذا المعطى الجديد، وضرورة أخذ العوامل الأيديولوجية-الثقافية في الاعتبار للتوصّل إلى فهمٍ أدقّ له. تنبُعُ أهمّية مثْل هذا الأمر مِن حقيقة أنّ صيرورة هذه التيّارات النيوفاشية لاعباً فاعلاً ومؤثّراً في دول الغرب الجماعي، وحتّى إمكانية وصول بعضها إلى سدّة السلطة، ستكون له تبعات على السياسات الخارجية للدول المذكورة، خاصّة حيال قضايا منطقتنا وفي المقدّمة منها القضية الفلسطينية، والصراع الدائر بيْن شعوبنا وقواها المقاومة مِن جهة، والكيان الصهيوني مِن جهةٍ أخرى.
المواقف الصادرة عن التيّارات النيوفاشية الأوروبية والأميركية منذ اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ غزّة عبّرت عن تماهٍ كاملٍ مع الطرف الصهيوني وتبنٍّ كاملٍ لسرديّته حولها. صحيحٌ أنّ حكومات الغرب الجماعي الراهنة فعلت الأمر عينه خلال الأشهر الأولى للحرب، وقدّمت، ولا تزال تقدّم، دعماً عسكرياً وسياسياً هائلاً لدولة الكيان، لكنها، وبسبب العدد الهائل مِن الشهداء المدنيين، وما نجم عنه مِن احتجاجاتٍ في جامعات بلدانها وشوارع عواصمها، لجأتْ إلى تكتيكٍ لفظي في خطابها الرسمي يقوم على الحضّ على «حماية حياة المدنيين واحترام القانون الدولي الإنساني». ما ينبغي لحْظه هو خلوّ تصريحات ومواقف ممثّلي اليمين الفاشي الغربي وقادته مِن أي مِن هذه العبارات، بل واتّهام مَن يطالب بوقف الحرب بـ«مساندة الإرهاب». فقد رأت مارين لوبن، مثلاً، الزعيمة «التاريخية» لحزب التجمّع الوطني الفرنسي، ورئيسة كتلته البرلمانية، أنّ «القوى التي تدّعي مساندة الفلسطينيين في فرنسا تخدم في الواقع مصالح حماس، وهي حركة إرهابية تستخدم المدنيين كدروع بشرية». أمّا حزبها، فكان قد أصدر بياناً بعد عمليّة «طوفان الأقصى» وصَفها فيه بالـ«بوغروم»، وهي التسمية المعتمدة في الغرب للمذابح وأعمال التنكيل التي تعرّض لها اليهود في روسيا وبعض دول أوروبا الشرقية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وأضاف البيان أنّ «المطلوب هو صحوةٌ عالمية ضدّ وباء التطرّف الإسلامي الذي يجب مجابهته بسرعة قصوى». لا تشذّ مواقف بقيّة التيّارات النيوفاشية في أوروبا أو في الولايات المتحدة عن مثْل هذا التطابق مع الخطاب الإسرائيلي الرسمي. وحتّى عندما وجّهت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وهي مِن قادة هذه التيّارات، خلال قمّة الدول السبع في إيطاليا، نقداً خجولاً إلى كيفية إدارة نتنياهو لحرب الإبادة، فقد فعلت ذلك لأنّ «إسرائيل وقعت في فخٍّ نصبته حماس لها لكي تُعزل دولياً». حرصت ميلوني طبعاً على التذكير في بداية كلمتها بـ«مسؤولية حماس عن الحرب نتيجة قتلها لمدنيين وأخذ آخرين بينهم رهائن».
تعكس المواقف المشار إليها، وأخرى كثيرة مشابهة لها، عن إعادة تموضعٍ فكري-سياسي شرع فيه اليمين الفاشي الغربي بمختلف مكوّناته، بات معها التصدّي لـ«التهديد الإسلامي»، الخارجي والداخلي، المهمّة المركزية الأولى على جدول أعماله السياسي. تخلّت هذه المكوّنات منذ عقودٍ عن نظريّة التراتبيّة العِرقية بين البشر لصالح نظريّة التراتبيّة الحضارية والثقافية التي يحتلّ فيها الغرب الموقعَ الأعلى بحكم «تفوّقه الأخلاقي والقيمي» أساساً. الخطر كلّ الخطر هو في مساعي مَن هم في مواقع أدنى، الجنوب العالمي أو «البرابرة الجدد» لا فرق، لإدخال تعديلاتٍ على هذه التراتبيّة فضلاً عن قلبها رأساً على عقب. المسلمون هم طلائع البرابرة، أكانوا في بلدانهم أم طابوراً خامساً في مدن الغرب وضواحيه، ومواجهتهم وإلحاق الهزيمة بهم بشتّى الوسائل هما بيْن الشروط الرئيسية للحفاظ على حضارة الغرب وهويّته «الأصليّة». ينظر هؤلاء إلى إسرائيل على أنها القلعة المتقدّمة في هذه الحرب المصيريّة ويعتقدون أنّ استنفار العصبيّة البيضاء هو شرطٌ لا بدّ منه لخوضها مع حظّ أعلى بالنجاح.
* كاتب من أسرة «الأخبار»