حَفَلَ الثلث الأوّل مِن هذا الحزيران بانتخاباتٍ ثلاث توزّعت على قارّات بعددها: جنوب آسيا، وأوروبا، وأميركا الوسطى، ويُقدّر لآثار كلٍّ منها أن تنسحب على القادم مِن الزمان بثقلٍ وافر، وإنْ متباين.أوّلها، فشلُ حزب اليمين الهندوسي الحاكم انتخابياً في التوفّر على أغلبيّة الثلثين في البرلمان الهندي، كما سبق وأقنع نفسه، بل والمراقبين، مصحوباً باحتلال حزب المؤتمر العلماني حجماً بارزاً فيه، بما ضيّق الفارقَ بين ائتلافي الحزبين لقرابة 60 مقعداً فقط لصالح اليمين.
ما مدلولات هذا الحدث؟ إنّ الغالبية الهندوسية عادت لتستشعر حِمل هوجة اليمين الشعبوي الهندوستاني في تضاعيفها وعَود كوارث لها: نهجه الاقتصادي وقد صبّ لصالح رأسمالية هندوستانية جشعة فشلت في التصدّي لواجب انتشال مئات ملايين المعدمين مِن وهدة العوز والفاقة طيلة عقد مِن السنين، وأنّ عنصريّته الفاقعة ضدّ الإسلام والمسلمين لا بدّ واصلةٌ بهم - الهندوس - إلى قارعةٍ مِن شقّين:
1- أخذُ 200 مليون مسلمٍ هندي زمام صدّ هجمة التطرّف والتمييز الهندوستاني ضدّهم بالقوّة العارية، بعد صبرٍ طاول صبر النبي أيّوب على مظالم متعاظمةٍ طيلة عقدين ونيّف، وبما يلحِق أشدّ الأضرار بكلّ «مكتسبات» عقدي «النيوليبرالية» الاقتصادية، ويغطّي شبهَ القارّة الهندية بحقول دمٍ أين منها وقائع انفصال 47 الكبير.
2- ارتكاس مسلمي العرب والعالم تُجاه المظلمة المرتكبة بحقّ بني دينهم الهنود. هنا وجبَ تذكّرُ أنّ هناك 9 ملايين هندي يعيشون في الخليج، وأنّ ما يرسلونه إلى ذويهم مِن مددٍ واحدٌ مِن أهمّ أعمدة الاقتصاد الهندي؛ وحين يجدّ الجدّ، فلن تنفعَهم وقاية هذا الحاكم أو ذاك لهم مِن عقاب المجتمعات التي نزلوا مواطنها. هناك أيضاً احتمال اغتنام العسكر الباكستاني، مؤيَّداً بالصين، لاضطراب حال الهند الداخلي حتّى يقوم - ولا سيما قوّته الجوّية الرفيعة المقام - بضربةٍ مزلزلةٍ لجيشها على نسق سابقتي 65 و99 (استثناءُ هزيمة 71 الباكستانية مدعاتُه الانقسامُ الداخلي بين الشرق والغرب).
أقرأ دلالة التحوّل الانتخابي هذا على أنه معلَمٌ على طريق الانعتاق مِن شرنقة الشعبويّة الهندوستانية في دورة الانتخاب القادمة، ولصالح حزب المؤتمر بالذات. لماذا؟ لأنه المحصّنُ التاريخي والمجرَّبُ مِن آثام الطائفية، بفضل علمانيته الراسخة، ولأنّه الأقرب إلى مصالح فقراء البلاد مِن يمينٍ موالٍ للأوليغاركية الهندوستانية، والأقدر على الاحتفاظ بحياد الهند الإيجابي وسط منازلة المهيمن الأميركي للصاعدَين الصيني والروسي. والحال أنّ تتبّع سيرة مودي حاكماً لعقدٍ يرجِّح احتمالَ حدوث انتخاباتٍ برلمانية سابقة لموعدها الروتيني؛ فانحيازه الأخرق ضدّ الصين، سَواءٌ في انضمامه إلى حلفين مناطقيين ذوي صبغةٍ عسكرية، مقودين أميركياً، وموجّهين ضدّها، أم في اندراجه في حلفٍ اقتصادي، مقودٍ أميركياً أيضاً، ليس مِن هدفٍ له سوى مزاحمة، بل وتقويض، مبادرة الحزام/ الطريق الصينية، عبر وصل الهند، بحراً ثمّ برّاً، بشرق المتوسط فأوروبا؛ فضلاً عن تحرّشه الحدودي بالصين، يفضي إلى تعريضه البلاد لخضّاتٍ مِن عيار 7 ريختر، ولا سيما وسمعة جيشه لا تبعث طمأنينةً عند أحد، ومثالُ هزيمته النكراء أمام جيش الصين، في خريف 62، ماثلٌ.
ما بدت، بخداع بصرٍ، أنها بيئةٌ صديقة - ولا سيما ما بين 2015 و2020 - للوافدين من عرب ومسلمين ستتجلّى طاردةً بامتيازٍ مع مقْبل السنين


لقائلٍ أنْ يقول: ولكنّ طغيان تركة نهرو/غاندي على حزب المؤتمر معيقٌ لعودته تصدّر المشهد. لا أرى في ذلك سُبّةً تَعوقُه، فالبيوتات السياسية باتت طقساً شائعاً في الشرق والغرب، فضلاً عن تاريخيّة «المؤتمر»، وديموقراطية تسنّمه الحكم أم خلعه عنه [ثنائي راوول وأخته واعد].
وثانيها، صعود اليمين المتطرّف في انتخابات البرلمان الأوروبي، على حساب أحزاب اليمين والوسط الحاكمة في بلدان القارّة. ولِمن تابع قلمي، فمنذ حينٍ شبه بعيدٍ وتوقّعي الأمرَ قائمٌ، بل ومعه توقّعُ انحلال الاتحاد الأوروبي مع الولوج إلى الثلث الثاني مِن الواحد والعشرين.
طيّب، ما دلالة ذلك للعرب والمسلمين؟
1- تخالطُ رهاب الإسلام مع معاداة اليهودية، مع رجحانٍ لهذا عن ذاك وفق الظرف السائد حينها. بتحديد، فما بدت، بخداع بصرٍ، أنها بيئةٌ صديقة - ولا سيما ما بين 2015 و2020 - للوافدين من عرب ومسلمين ستتجلّى طاردةً بامتيازٍ مع مقْبل السنين. يستبطن ذلك خيراً كثيراً لبلدان العرب والمسلمين الأصليّة، لِما تحت أيدي هؤلاء مِن خبرةٍ مكتسبة مِن جوانب «المدنيّة» الأوروبية.
2- تمازجُ ذلك بارتفاع منسوب التأييد لنظراء اليمين الأوروبي المتطرّف في إسرائيل.
طيّب، ما دلالته لهم ولباقي العالمين؟
1- حقنُ الشقيق الأكبر، اليمين الشعبوي القومي الأميركي، بحقنةٍ مقوّية فيما هو يتأهّب لمبارزة دولة الأمن القومي الحاكمة، توطئةً لإعادة إنتاجها على صورته في حالِ فوزه في سباق نوفمبر الرئاسي.
2- في المقابل، تناءٍ عن الناموس الجيوسياسي «الأطلسي»، بشقّيه الأوروبي والأميركي، لا بل وتحلّلٌ متدرّج ممّا يراه إساراً أوروبياً خانقاً لقوميات أوروبا، ومعطوفاً على تموضعٍ أكثر قرباً مِن روسيا.
ثالثها، انتخاباتُ الرئاسة المكسيكية، والتي أتت بيهوديةٍ إلى مقام الرئاسة، مرسيةً سابقةً كونية فضلاً عن محلّية. والحال أنّ انتباه العرب لشأن المكسيك يحتاج إلى شحنٍ يقظ، لا ليهودية الرئيسة بحدّ ذاتها – فقد كان مستشارُ النمسا في السبعينيات، برونو كرايسكي، يهودياً مِن دون أن يخلّ ذلك بحياديّته الموضوعيّة في المسألة الفلسطينية - بل لأنها ترأس بلداً محاذياً للولايات المتحدة، ويتّجر معها – إضافة إلى الجار الآخر كندا – بأعلى الأرقام، بما عناه ذلك مِن تأثّرٍ بسياساتها. لقد كان لافتاً تذبذب موقف سلفها وراعيها، أملو، نحو الصراع الدائر في فلسطين. لذا، فهناك مدعاةٌ لسعيٍ عربي كي لا تنجرف المكسيك إلى هوّة الأرجنتين المتصهينة رئاسياً، ولو لحين.
دارَ ذلك كلّه على إيقاع حربين فوق مسرحين: غرب آسيا وشرق أوروبا. وعلى خلفيّة انتخابين برلمانيين مهمّين في بريطانيا وفرنسا. وكلّه غداةَ انتخابات الرئاسة الأميركية الفاصلة في 5 نوفمبر القادم.
* كاتب عربي