ما فعله «طوفان الأقصى» هو إعادة البوصلة مِن الصراعات الداخلية إلى معركة «الأمّة» مع العدوّ الصهيوني. لطالما كانت فلسطين عنواناً جامعاً للجماهير العربية على اختلافاتها، وهي في صلب هويةٍ عربيةٍ تمثّل مشتركاً عابراً لحدود الطوائف. حين تصبح البوصلةُ فلسطين ينخفض الصوت الطائفي، خاصةً عندما تلتحم دماءُ السنّة والشيعة في المعركة ضدّ عدوّ الأمّة. مشاركةُ فصائل مقاوِمَة من خلفيّاتٍ مذهبية مختلفة، وفي جبهاتٍ عربية متعدّدة، أعادت الاعتبار لوحدة المصير في إطار «الصراع العربي الإسرائيلي»، الذي تمّ العمل على تحويله إلى صراع فلسطيني إسرائيلي يدور حول التنازل عن الذاكرة قبل الأرض، وفصل الأمّة عن نفسها بفصلها عن فلسطين.
قطاعات من النخب والجماهير العربية، من السنّة والشيعة، ما زالت عالقةً في رواسب الصراع الطائفي والحروب الأهلية العربية، ولم يمثّل «طوفان الأقصى» وما تلاه بالنسبة إليها إلا أداةً لتسجيل النقاط
تراجعَ الخطابُ الطائفي في لحظة المواجهة مع العدوّ، وبدأت تتفكّك تكتّلاتٌ طائفية صَنَعتها أحداثُ العقد الأخير في المشرق العربي، بانحياز بعض النخب والجماهير التي انخرطت في صراعاتٍ طائفية في السنوات الأخيرة لأولوية العداء لإسرائيل على كلّ خصومَة. لكنّ قطاعاتٍ من النخب والجماهير العربية، من السنّة والشيعة، ما زالت عالقةً في رواسب الصراع الطائفي والحروب الأهلية العربية، ولم يمثّل «طوفان الأقصى» وما تلاه بالنسبة إليها إلا أداةً لتسجيل النقاط في المعركة مع الخصم المذهبي، وتمسّكت بالتعريف المذهبي للذات ووضع الحدود مع الآخر المختلِف مذهبياً، في خضمّ معركةٍ مع عدوٍّ لا يرى الحدودَ المذهبيةَ ولا القُطريةَ في توحشّه للدفاع عن وجوده ومستقبله.
يمكنُ القولُ إنّ على قوى المقاومة التي تقاتلُ في جبهاتٍ متعدّدةٍ من أجل غزة وفلسطين، مسؤولية تَوجيهِ خطابِها السياسي لمعالجة آثار صراعات العقد الماضي عند شريحةٍ مِن جمهورها، وإعادة الاعتبار للهوية الجامعة والمشتركات في الخطاب السياسي، غير أنّ هذا يمثّل فقط جزءاً من المعالجة الشاملة للأزمة. ما حصل في العقد الأخير يستدعي حلولاً سياسيةً احتوائية (وليس مسكّناتٍ تؤجّل الانفجارات) في البلدان التي نُكِبَت مجتمعاتُها بالحروب الأهلية، تشملُ الناسَ على اختلافاتهم، وتحاصرُ الانقسامَ المجتمعي، وتبني هويةً جامعة، يدفع باتجاهها كلّ مَن يحرص على توجيه بوصلة العداء ضِمنَ المسار الذي اختطّه «طوفان الأقصى».
لا تفنى الطائفية، لكنّ تهميشَها في المشهد السياسي العربي ممكنٌ، في حال وجود مشروعٍ يناقضها. يقدّم النضالُ المشتركُ المخضّبُ بدماء سنّةٍ وشيعةٍ أساساً يُبنى عليه، لكنّه يحتاج إلى تدعيم برؤيةٍ سياسيةٍ لا تشدّد وحسب على فلسطين ومجابهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بل توجد عنصراً جامعاً في الخطاب، وإنّما تزيد على ذلك بتقديم تصوّرٍ لمجابهةٍ سياسية واقتصادية للغرب الاستعماري، ومعالجة آثار الصراعات الأهلية في عدّة دولٍ عربية.
يمثّل «طوفان الأقصى» لحظةً نقيضةً للحظة غزو العراق، والتضحياتُ المقدَّمة من خلاله يمكن أن تشكّل فرصةً تاريخيةً لمعاكسة نتائج غزو العراق والحروب الأهلية والصراعات الطائفية في المجتمعات العربية، إذا ما تمّ البناء عليه سياسياً بالشكل الأمثل.
* كاتب عربي