لم تبدأ الطائفية في منطقتنا العربية مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، لكنّها كانت لحظةً فارقة في صعود وازدهار الخطاب الطائفي داخلَ المجتمعات العربية. الاختلافات المذهبيّة بين السنّة والشيعة ليست أساس الأزمات الطائفية، وإنّما انحباس التطوّر الاقتصادي/الاجتماعي في منطقتنا والحداثة العرجاء، بتكريسهما سطوةَ البنى التقليدية (طوائف، عشائر)، وتسهيل تسييس الهويّات العشائرية والمذهبية، وتحويلها إلى أدواتٍ للحشد والتعبئة، في ظِلّ هجمةٍ استعمارية انطلقت مِن «فرض» فهم هذه المجتمعات بوصفها جماعاتٍ دينية وإثنية متحاربة، لدواعي السيطرة عليها واحتقارها وعدم قبول طموحها بالتعبير عن أمّةٍ تسعى لتقرير مصيرها. كانت لحظةُ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 تكثيفاً لهذه العوامل المؤسِّسَة للأزمات الطائفية: غزو خارجي برؤية استعمارية عنصرية ترفض قيامة جماعةٍ وطنية/قومية، وتبنِي نظاماً سياسياً يقوم على احترابٍ يسخنُ ويفترُ بين جماعاتٍ بعناوين مذهبية وعشائرية، بوجود أحزابٍ سياسية ليس لديها من أدوات السياسة غير التعبئة الطائفية لاستخدامها في التواصل مع الجماهير. حملت نتائجُ الغزو، والتركيبةُ السياسية التي ثبّتها، وما أنتجته من احترابٍ أهلي، عدوىً سَرَت في المجتمعات العربية، وتفجّرت مع الحروب الأهلية في أكثر من بلد عربي، بعد عام 2011. في المجتمعات التي لم تعرف الحروبَ الأهلية في العقد الأخير، كما في حالة مجتمعات الخليج العربي، بلغت التوتراتُ الطائفية ذروتَها، وتركت الأحداثُ في سوريا والعراق واليمن والبحرين بَصمَتها على مستوى الانقسام الطائفي في عموم المنطقة. يرتفعُ منسوبُ الطائفية وينخفضُ بحسب الأحداث، وقد شهدَ في العقدين الأخيرين ارتفاعاً فانفجاراً.
ما فعله «طوفان الأقصى» هو إعادة البوصلة مِن الصراعات الداخلية إلى معركة «الأمّة» مع العدوّ الصهيوني. لطالما كانت فلسطين عنواناً جامعاً للجماهير العربية على اختلافاتها، وهي في صلب هويةٍ عربيةٍ تمثّل مشتركاً عابراً لحدود الطوائف. حين تصبح البوصلةُ فلسطين ينخفض الصوت الطائفي، خاصةً عندما تلتحم دماءُ السنّة والشيعة في المعركة ضدّ عدوّ الأمّة. مشاركةُ فصائل مقاوِمَة من خلفيّاتٍ مذهبية مختلفة، وفي جبهاتٍ عربية متعدّدة، أعادت الاعتبار لوحدة المصير في إطار «الصراع العربي الإسرائيلي»، الذي تمّ العمل على تحويله إلى صراع فلسطيني إسرائيلي يدور حول التنازل عن الذاكرة قبل الأرض، وفصل الأمّة عن نفسها بفصلها عن فلسطين.
قطاعات من النخب والجماهير العربية، من السنّة والشيعة، ما زالت عالقةً في رواسب الصراع الطائفي والحروب الأهلية العربية، ولم يمثّل «طوفان الأقصى» وما تلاه بالنسبة إليها إلا أداةً لتسجيل النقاط


تراجعَ الخطابُ الطائفي في لحظة المواجهة مع العدوّ، وبدأت تتفكّك تكتّلاتٌ طائفية صَنَعتها أحداثُ العقد الأخير في المشرق العربي، بانحياز بعض النخب والجماهير التي انخرطت في صراعاتٍ طائفية في السنوات الأخيرة لأولوية العداء لإسرائيل على كلّ خصومَة. لكنّ قطاعاتٍ من النخب والجماهير العربية، من السنّة والشيعة، ما زالت عالقةً في رواسب الصراع الطائفي والحروب الأهلية العربية، ولم يمثّل «طوفان الأقصى» وما تلاه بالنسبة إليها إلا أداةً لتسجيل النقاط في المعركة مع الخصم المذهبي، وتمسّكت بالتعريف المذهبي للذات ووضع الحدود مع الآخر المختلِف مذهبياً، في خضمّ معركةٍ مع عدوٍّ لا يرى الحدودَ المذهبيةَ ولا القُطريةَ في توحشّه للدفاع عن وجوده ومستقبله.
يمكنُ القولُ إنّ على قوى المقاومة التي تقاتلُ في جبهاتٍ متعدّدةٍ من أجل غزة وفلسطين، مسؤولية تَوجيهِ خطابِها السياسي لمعالجة آثار صراعات العقد الماضي عند شريحةٍ مِن جمهورها، وإعادة الاعتبار للهوية الجامعة والمشتركات في الخطاب السياسي، غير أنّ هذا يمثّل فقط جزءاً من المعالجة الشاملة للأزمة. ما حصل في العقد الأخير يستدعي حلولاً سياسيةً احتوائية (وليس مسكّناتٍ تؤجّل الانفجارات) في البلدان التي نُكِبَت مجتمعاتُها بالحروب الأهلية، تشملُ الناسَ على اختلافاتهم، وتحاصرُ الانقسامَ المجتمعي، وتبني هويةً جامعة، يدفع باتجاهها كلّ مَن يحرص على توجيه بوصلة العداء ضِمنَ المسار الذي اختطّه «طوفان الأقصى».
لا تفنى الطائفية، لكنّ تهميشَها في المشهد السياسي العربي ممكنٌ، في حال وجود مشروعٍ يناقضها. يقدّم النضالُ المشتركُ المخضّبُ بدماء سنّةٍ وشيعةٍ أساساً يُبنى عليه، لكنّه يحتاج إلى تدعيم برؤيةٍ سياسيةٍ لا تشدّد وحسب على فلسطين ومجابهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بل توجد عنصراً جامعاً في الخطاب، وإنّما تزيد على ذلك بتقديم تصوّرٍ لمجابهةٍ سياسية واقتصادية للغرب الاستعماري، ومعالجة آثار الصراعات الأهلية في عدّة دولٍ عربية.
يمثّل «طوفان الأقصى» لحظةً نقيضةً للحظة غزو العراق، والتضحياتُ المقدَّمة من خلاله يمكن أن تشكّل فرصةً تاريخيةً لمعاكسة نتائج غزو العراق والحروب الأهلية والصراعات الطائفية في المجتمعات العربية، إذا ما تمّ البناء عليه سياسياً بالشكل الأمثل.

* كاتب عربي