لا صوت يمكن سماعه في مملكة سلمان ونجله الجامح سوى صوت الجرّافات، التي نشبت أولى مخالبها في أحياء جدّة والحويطات غربي الجزيرة العربية، ويسمع صرير أنيابها في الوقت الراهن في مدن وقرى القطيف. مشهد الجرّافة الإسرائيلية وهي تهدم منازل الفلسطينيين في مدن وقرى الضفة الغربية لم يعد بعد اليوم فريداً ولا منفرداً ولا فردياً، فهناك مشهد آخر أشد قساوة ووحشية. إنّ غزوة الجرّافات السعودية التي هدمت أحياء سكنيّة تضم مئات الآلاف من العوائل في جدّة، لم تستهدف منزل مقاوم نفّذ عملاً بطولياً ضد كيان محتل، ولكنّها تستهدف رعيّتها التي جعلت منهم طعماً لوحش الآلة التي هدمت دون تمييز كلّ ما صادفته في طريقها، وتركت وراءها ركاماً هائلاً، كما لو أن زلزالاً ضرب هذه المنطقة بأقصى الدرجات على مقياس ريختر. فابن سلمان المولع بالأرقام القياسية يحطّم أرقام الهدم في العالم، هدم الأحياء السكنيّة الآمنة، متستّراً بشعار «التطوير»، مذكّراً بشعار رفعه عمّه نايف، وزير الداخلية وولي العهد السابق، حين رفض ذات لقاء في عام 2004 مفردة «الإصلاح» الواردة في عرائض رموز الإصلاح وفي خطاب الملك عبد الله نفسه، على قاعدة أن الإصلاح إنما هو مقابل الفساد، وأن العائلة المالكة ليست فاسدة، وأن الصحيح هو التطوير. وللمصادفة، أن شعار «التطوير» كان المسؤول عن اعتقال مجموعة من دعاة الإصلاح في عام 2004 مهوّلاً بعودة سيرة القمع والتنكيل بالمطالبين بالتغيير و(تطوير) النظام. في زمن ابن سلمان أصبح «للتطوير» نكبة أخرى للمعنى، فهو مصمّم لهدم الأحياء السكنية وتشريد أهلها ونبذهم في العراء ليتدبّروا حتفهم. شهية التطوير الهادم لا حدود لها، فهي تجتاح المناطق كافة، ولكن كما في كل العهود، هناك مناطق مكتوب عليها أن تنال الأدنى من الحقوق والأقصى من العقوبات، ومنطقة القطيف كانت على الدوام في طليعة تلك المناطق، والسبب بكل وضوح طائفي، وليس غير ذلك.
مشكلة النظام السعودي قديمة مع هذه المنطقة، وتعود إلى الأيام الأولى من تحالف الوهابية وآل سعود في منتصف القرن الثامن عشر. كان التكفير عنواناً للموقف السعودي الوهابي من أهالي الأحساء والقطيف، وحتى غزو هذه المنطقة كان مدفوعاً بالعنوان الطائفي. عبد العزيز بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الحالية عام 1932، كان قد أرسل دعاة وهابيين إلى الأحساء والقطيف مبشّرين ومنذرين من أجل «هداية» أهلها إلى الإسلام وفق التفسير الوهابي. لم تحقق الخطة أهدافها، مع إصرار الشيعة في هذه المنطقة على الاحتفاظ بعقيدتهم ورفض التنازل عنها كرمى عيون عقيدة مجهولة المصدر.
قبل النظام السعودي بالواقع القائم مرغماً، فيما كان «النجديون» من أهل السلطة يتمتمون في مجالسهم، ويظهر منها في فلتات ألسنتهم في لقاءاتهم مع شخصيات شيعية في سياق الإنكار على تقوقع الشيعة في مناطقهم. لم يكلّف هؤلاء أنفسهم مجرد السؤال عن سرّ ذلك التقوقع، ولا سيما في بلد تحكمه عائلة شيفرة سلطانها إشاعة القلق في قلوب من تحكمهم، وتهديدهم في وجودهم وأرزاقهم وعقيدتهم وهويّتهم، ولم تفكّر قط في مجرد مقاسمتهم الثمار التي تجنيها من مناطقهم، ولم تسمح لأحد منهم أن يتولى أمر محافظة ولا مدير شرطة ولا رئيس قسم حتى، بل كانت تأتي بهم من نجد الحاكمة.
مع وصول سلمان إلى سدّة العرش في 23 كانون الثاني/ يناير 2015، دخلت المملكة السعودية مرحلة جديدة، بعد أن عاشت مرحلة هدوء نسبي في عهد عبد الله بفعل صراع الأجنحة وتعدّد مراكز القوى وتوزّع السلطة، وأجواء الربيع العربي ومناخ الحرية المستقطع، والتشويش الطارئ على رادار العلاقات السعودية الأميركية.
استكمل ابن سلمان ما بدأه والده باستبعاد ولي عهده الأول مقرن بن عبد العزيز في 28 نيسان/ إبريل 2015 وولي عهده الثاني محمد بن نايف في 21 حزيران/ يونيو 2017، وقضى ابن سلمان على آخر المنافسين المحتملين لعرشه، متعب بن عبد الله وزير الحرس الوطني السابق، وأحد المرشّحين في خط الوراثة، في حملة الريتز في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018.
تفرّدُ محمد بن سلمان بالسلطة، مدعوماً من أبيه، جعل منه «الحاكم بأمره»، وبذلك أصبحت «رؤية السعودية 2030» التي أعلن عنها في نيسان/ إبريل 2016، جاهزة لتنفيذ فصولها القاتمة. بين الترفيه والتهجير علاقة غواية، وإن ثنائية الصورة التي تطبع سيرة ابن سلمان تنسحب على كل مرفق من مرافق الرؤية ومشاريعها. فصورة الدموي والسادي تضم إلى جانبها صورة الداعي إلى الإسلام المعتدل، وصورة المدمّر تجمع معها صورة رائد مبادرة الشرق الأوسط الأخضر أو المملكة الخضراء. هو يخفي مخازيه بمبادرات مستحيلة، ولكنها لعبة السياسة كما تظهرها ابتسامته الوقحة.
على عكس الملك عبد الله الذي كان ذكياً في تمرير قراراته القاتلة بصورة هادئة، فإن ابن سلمان المسكون بجنون العظمة، اختار عقيدة الصدمة منهج حكم وسيرة حياة، فلا يكترث بالعواقب ولا يفكّر فيها أيضاً. فليس عاقلاً من يقدم على أكبر عملية هدم وتجريف لأحياء سكنية في تاريخ الجزيرة العربية وتهجير مئات الآلاف من السكان دونما مبررات وجيهة، ثم ينتظر من الضحايا تتويجاً له زعيماً عليهم. كان قرار الإزالة - المعلن على الأقل - مقتصراً على حي صغير في جدّة، ولكن شهيّة الهدم فغرت فاهها وطاولت أحياء واسعة، هي المدى الذي تصل إليه ذراع الجرّافة الحمقاء.
للتهجير وتجريف الأحياء السكنية أبعاد كارثية جمّة، ومن بينها البعد الثقافي والهويّاتي. فهذا المخطط يهدف إلى محو الذاكرة الجماعية، التي تشكّلت على مدى سنوات طويلة وارتبطت بالأرض وما يدور عليها من مناشط اجتماعية واقتصادية وثقافية، بل وبدورة الحياة اليومية، وبالعادات والتقاليد المشحونة بالتاريخ والذاكرة على نحو دائم.
في عهد سلمان ووريثه، بدأ شكل جديد في الحرب على هذه المنطقة وسكّانها تحت شعار «التطوير»، وهو ليس شيئاً آخر سوى «الهدم» و«التهجير» بكل أبعاده العمرانية والسكانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى النفسية


وكما يحق للآخرين أن يفخروا بأماكن ذاكرتهم، كذلك يحق لغيرهم أن يفخروا بإرثهم المكاني بكل ما فيه، وأن يدافعوا عنه إزاء مخطط تهشيم الذاكرة ومحوها.
بالنسبة إلى السكان الأصليين في الأحساء والقطيف، تمثّل مواطنهم «مناطق ذاكرة»، بحسب الفيلسوف الفرنسي بوشر، شأنها شأن المدن التاريخية، وحين يتغنّى الشعراء بعيون ونخيل وقلاع وأحياء وسهول وكثبان وبحر هذه المنطقة فهم يستعيدون ذاكرتهم، ووجودهم وأصالتهم التاريخية. فهذه المنطقة ليست مأوى لجماعة طارئة أو مهاجرة أو مغتربة، ولا محطة استراحة مؤقتة، جذورها ضاربة في أعماق التاريخ، وهي إرث إنساني عريق، وأمانة حملتها أجيال متعاقبة عبر تاريخ طويل لا انقطاع فيه. فكل بيت في هذه المنطقة له ذاكرة مشحونة بقصص السابقين من الأجداد والآباء، بالحنين وعبق التاريخ المليء برموز ودلالات، بالقصص والأساطير والفرح والحزن، بالمعاناة والمكابدة القاسية، بلسعة الشتاء وقيض الصيف. فالبيت ليس مجرد أحجار بنيت في أزمنة سابقة أو لاحقة، وإنما هو راسخ الجذور في بيئة جغرافية وبشرية خاصة، وهو مندغم في التكوين الثقافي والنفسي والاجتماعي لكل فرد في هذه المنطقة. وحين يفقد الإنسان كل شيء كان مندغماً في ذاكرته فهو يفقد هويته وكرامته، ويصبح مجرد كائن مقطوع الجذور، بلا حصانة ومنعة، ويكون عرضة للفناء الهوياتي وحتى البيولوجي.
إنّ المنزل ليس سياجاً للعزلة، ولكنّه أيضاً ليس مكاناً مستباحاً يجيز لصاحبه التنازل عنه تحت مسمّيات مضلّة. مجموعة المنازل في هذه المنطقة منحت ساكنيها شعوراً بالأمان، وكانت كذلك على الدوام. إنّ مخطط تجريف الأحياء، وتالياً التهجير، يهدف، أول ما يهدف، إلى تقويض هذا الشعور، المشدود بحبل الوحدة المتينة بين أبناء هذه المنطقة.
وعسيرٌ على دولة بنيت على تقسيم المجتمع من أجل وحدة سلطانها هضم أي ضرب من ضروب التآزر والانسجام في أي منطقة من مناطق الجزيرة العربية، بل تنظر إليه كمصدر تهديد لوجودها. وعلى مدى عقود خلت كان النظام السعودي يلوذ بسياسة التمييز والإقصاء على قاعدة طائفية طمعاً في خنق أهل هذه المنطقة وتقويض أسس استقرارها، فكانت تعاني الإهمال المديني والحرمان من أبسط حقوقها مثل الجامعة، والمستشفى النموذجي، وحتى الإمكانات السياحية، فضلاً عن سياسة التمييز الوظيفي والديني والاجتماعي والثقافي.
في عهد سلمان ووريثه، بدأ شكل جديد في الحرب على هذه المنطقة وسكّانها تحت شعار «التطوير»، وهو ليس شيئاً آخر سوى «الهدم» و«التهجير» بكل أبعاده العمرانية والسكانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى النفسية. تباينت سياسة الهدم والتهجير من منطقة إلى أخرى، فهي في جدّة أخذت شكل الصدمة الجماعية المباغتة، بما يذهل أهلها عن استيعاب هولها ومن ثم التصدي لجرافات الكراهية وهي تقوم بتهشيم خلاصة «شقى أعمارهم»، فوجدوا أنفسهم في العراء لا مأوى لهم ولا ملاذ، ولا ظل يتّقون فيه حرارة الشمس الحارقة سوى الجسور المعلّقة التي تكدّسوا بالأسفل منها، في أحد أبشع أشكال الضياع والتهجير القسري الداخلي في تاريخ الجزيرة العربية. ومن باب التذكير فحسب، إنّ هذا التهجير لم يكن ناجماً عن حرب أو كارثة طبيعية، أو حتى وباء، بل هي لعنة الدولة بغطرسة القوة لدى قادتها التي أرغمت السكّان على النزوح إلى اللامكان، إلى التيه، وإلى المجهول الكارثي.
لقد أعادت الدولة بمشروع الهدم والتهجير الذي تجري فصوله بعقلية جمعت بين الانتقام والاستثمار إحياء سيرة التهجير القسري الداخلي الذي كان العالم قد طوى صفحته منذ أمد بعيد إلى جانب الإبادة الجماعية. ولكن مع عقلية قاطع الطريق الذي يحكم البلاد والعباد يصبح كل شيء طوع شهية مفتوحة على تحطيم كل ما ومن يقف في طريقه.
في المنطقة الشرقية، ومناطق أخرى، بدت سياسة الهدم والتهجير تدرّجية من دون تغيير في أصل الهدف النهائي، أي التهجير والتشريد وإفراغ المدن والقرى من أهلها وذاكرتها الجمعية. قد يكون النظام قد تنبّه إلى بشاعة المشهد الذي تركته جرافاته العمياء وما اقترفته في جدّة، وقد يكون استيعاباً متأخراً واستباقياً لردود الفعل المتوقّعة من أهالي منطقة يدرك النظام السعودي بأنهم «لا ينامون على ضيم» يمسّهم، فلجأ إلى الهدم التدريجي والمتنقل، ولكن الهدم الكمي المتراكم كشف عن تغيير نوعي هائل، بلغة رفاق ماركس.
في منطقة القطيف، ومحافظات أخرى ولكن بنسب متفاوتة، يجري تطبيق سياسة العقاب الجماعي، أو بالأحرى الاغتيال الجماعي، بدأت أول مرة في عام 2017 حين نفّذت السلطات السعودية أول عملية تجريف لحي المسوّرة، صميم وروح بلدة العوامية، العائد إلى ما قبل أربعمائة سنة، حين كانت المملكة السعودية الوهابية في رحم الغيب. أزالت جرّافات المملكة حديثة العهد، نحو خمسمائة منزل تاريخي بعد هجوم عسكري على هذا الحي التاريخي بكل بيوته وآثاره وأبوابه ونقوشه، وأنفاس الأسلاف وصلواتهم ومساجده وحسينياته. كانت النية معقودة منذ البداية على معاقبة أهل هذا الحي لإيوائه الثوّار المنتمين إلى خزّان المحرومين في منطقة القطيف. قاوم هؤلاء اجتياح المدرّعات والقصف العشوائي لبيوتات الحي، ولكن فارق القوة كان سيد الميدان، وأبى الثوّار إلا الصمود بكرامتهم أمام جحفل الغزاة المدجّجين بالسلاح وعقيدة الفتح بخلفية تكفيرية، فعاث جنود الفتح خراباً وفساداً في المنطقة، فهدمت قذائف مدافعهم سور الحي وأبنيته، حتى جعلوا منه مكاناً غير قابل للسكن.
على مدى نحو ثلاثة أشهر، لا يسمع في مدينة العوامية، وما حولها، سوى دوي القذائف التي كانت ترمى من مكان قريب على حي المسوّرة وما حوله لتشعل حرائق في المنازل المكتظّة بأهلها. وبعد أن أنهى الغزاة مهمتهم، رفعوا رايات النصر داخل مساجد وحسينيات البلدة، ليبدأ فصل آخر من الحرب. على ركام حي المسوّرة ووقع التشريد الذي طاول مئات العوائل التي غادرت، مقهورة، منازلها من دون مكان تسكن فيه، أو ملاذ آمن تأوي إليه. ولأن لعبة «التعويضات» هي الشيطان الكامن في تفاصيل الهدم والتهجير، فإنّ من أرغموا على النزوح إمّا خسروا «جني أعمارهم» أو نالوا فتات الفتات الذي لا يكفي لسداد كلفة أرض فضلاً عن إعمارها، وبذلك ينطبق عليهم من الناحية القانونية وصف «المشرّدين»، ولكن في أوطانهم.
في حي المسوّرة الفارغ من أهله، كان ثمة مشروع للهدم بعنوان مضلّل. قالوا بأن الدولة تعمل على «تطوير الحي». وكانت النتيجة مجرد ساحة جرداء، وبعض المحال التجارية الفارغة من الروح، ومواقف للسيارات. أمّا أهالي هذا الحي فلم يسأل أحد عنهم، لأن مصيرهم كان مثل مصير سكّان جدّة الذين آووا إلى المزارع خارج أسوار المدن، أو عادوا إلى حياة الخيم وبيوت الشعر، وقلّة منهم التحقوا بأقرباء لهم في ضيافة قهرية لا يعلم أحد أمدها وخاتمتها.
كان هدم المسوّرة فاتحة سيرة الهدم والتهجير، فما إن بدأت أنياب جرافات الكراهية تنهش جدران الأحياء في مدن وقرى القطيف حتى مدّت عنقها إلى الأحياء البعيدة، فمن البحاري والشويكة والجش إلى صفوى وتاروت وسيهات وأم الحمام وغيرها الكثير، محمولاً على تقسيم القطيف إلى محافظتين: القطيف، والبيضاء الفارغة سكناً وسكّاناً، حتى بدت صورة المخطط الإجرامي تجلو لتنذر بما هو أخطر قادم، ويتجاوز الهدم والتهجير تمهيداً لمرحلة «التطهير الطائفي» متبوعاً بإفناء الذاكرة الجمعيّة، وإلغاء تاريخ المكوّن الشيعي، وتهشيم هويته، وإرثه، وسحق وجوده، حتى لا يعود له أثر بعد عين.
لا جرم أن ما ينفّذه ابن سلمان ورهطه، وبعضهم من حديثي النعمة، يزيد الفتق في ثوب سلطة بات رتقه عسيراً، فقد كثر الناقمون عليها من الأقربين والأبعدين، وإنّ المساس بالمصير يجعل من ترسانة الحجج التي يتلطّى وراءها مجرد هراء لا معنى له، لأن الوجود في ذاته يختزن كل المعاني وأن الفقدان يسلبها جميعاً.
كان سكّان هذه المنطقة بمنزلة حرّاس الذاكرة المؤتمنين على أرضهم، وبيوتهم، وحقولهم، وآبارهم، وحتى أكواب الفخّار التي شربوا بها الماء. ولن تبرد الذاكرة أو تطفأ لمجرد أن وحوش وسط الصحراء أصابتهم نوبة غرور وقرّروا في لحظة مجنونة منفلتة أن يجتاحوا الواحة الآمنة.
* باحث من الجزيرة العربية