كان يوماً من أيام نيسان من عام 2021، حين كان العالم لا يزال يتلوّى من تداعيات وباء «كورونا» على قطاعاته المختلفة. في اللّيلة السابقة، خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمةٍ متلفزةٍ توجّه بها إلى الشعب الفرنسي، كاشفاً السّتار عن حزمة إجراءاتٍ جديدةٍ للحدّ من تفشّي الوباء، كان أبرزها الانتقال من الدّوام الحضوريّ إلى الدّوام عن بُعد في المدارس والمعاهد والجامعات في الأسبوع المتبقّي قبل عطلة الرّبيع، ثمّ إطالة أسبوعَي عطلة الرّبيع أسبوعاً إضافيّاً، واستمرار العمل عن بُعد لدى الطّبقة العاملة، خاصّةً آباء وأمهات الأطفال واليافعين، ما يقلّل من فُرص الحركة والتّواصل، وبالتّالي تفشّي الفيروس، مدّة أربعة أسابيع.باتت الكُرة، عقب الخِطاب، في ملعب الشركة الوطنيّة لسكك الحديد التي استشرفت حركةً كثيفةً في الأيّام المقبلة إثر توجّه غالبيّة سكّان المدن الكبرى مع أبنائهم إلى المدن الأصغر والضواحي والأرياف لقضاء الأسابيع الأربعة المقبلة بعيداً عن مقيّدات المدن الكبرى وشققها الصغيرة ومساحاتها الخضراء المتضائلة.
في الصباح التّالي لكلمة الرئيس الفرنسي، انتشر مراسلو وكالات الأنباء والمحطّات الإذاعيّة والتّلفزيونيّة في محطّات القطارات الرئيسيّة لرصد الحركة الكثيفة المتوقّعة. تستوقف مراسِلةٌ لإحدى محطات التّلفزة المحلّيّة، بمنتهى العبثيّة، أحد الأشخاص، لا عائلة أو أطفال بصُحبته. تسألُه، قبل البدء بالتّسجيل، إن كان في طريقه لمغادرة العاصمة الفرنسيّة متّجهاً نحو إحدى مدن الأطراف لقضاء الأسابيع الأربعة المقبلة في العمل عن بُعد. ينفي لها ذلك موضّحاً أنّه سيستقلّ القطار في مهمّةٍ في إطار عمله ستستمرّ يومين وليلة، وأنّ وجهته هي إحدى مدن الوسط الفرنسيّ. تبدو علامات الخيبة على وجه المراسلة التي تُسارع إلى الاعتذار من مُحدِّثها قائلة: «عذراً على إضاعة وقتك، لكنّ حالتك لا تنضوي تحت زمرة الحالات التي نرغب في الإضاءة عليها في تقريرنا هذا المساء!». تتركه المراسلة متوجّهاً نحو قطاره وعلى وجهه أمارات التعجّب. دقائق قليلةٌ وتعلو صفّارة الانطلاق، ثمّ دقائق بعدها ويكتسب القطار سرعتَه القصوى تاركاً ذاك الراكب سارحاً في أفكاره التي يُعيده قطارها سنواتٍ قليلةً إلى الوراء، إلى حين كان في طور إنهاء التّجارب الأخيرة في بحثه لنيل شهادة الدكتوراه. كان حينها يقوم باختبار فعاليّة مجموعةٍ من المُركّبات الكيميائيّة التي قام بتصميمها وتصنيعها على زمرةٍ من البروتينات السّرطانيّة. أظهرت تجارب القياس فعاليّةً لا لبس فيها لأحد هذه المُركّبات على اثنين من البروتينات السّرطانيّة، ما يجعل منه مشروع دواءٍ واعدٍ في محاربة أنواع السّرطانات التي تتّسم بفرط إنتاج هذين البروتينين. يقوم الباحث بعرض نتائج تجاربه على أستاذه المشرف على البحث، فإذا بالخيبة ترتسم على وجه الأستاذ. هي الخيبة عينُها التي كان قد رآها هذا الصباح على وجه المراسلة التّلفزيونيّة في محطّة القطارات.
لم يكن هذان البروتينان هما البروتينان ذاتهما اللّذين أمِل الأستاذ المشرف على البحث استهدافهما حينما انكبّ على كتابة المشروع البحثيّ قبل أربع سنواتٍ مضت، وتقديمه للهيئات المانحة للتمويل. «ما من ضمانةٍ أن نحصل بالتّجربة على النّتائج التي جرى التّنبؤ بها على الورق، والاحتمالات مفتوحةٌ دوماً على المفاجآت. لعلّ هذا الثّابت الوحيد في مضمار الأبحاث المتغيّر، خاصّةً ما يتناول منها الخلايا الحيّة». يحاجج الباحث، «فضلاً عن أنّ النتائج التي بين يديك قد ثبتت في 85% من المرّات التي قمتُ بإعادة التّجربة فيها، وجميع المؤشّرات تدلّ على هامش خطأ ضئيلٍ جدّاً مقابل مؤشّر ثقةٍ عالٍ بالنّتائج».
لم يُحسم الجدال يومها، ولم تحسمْه لاحقاً سوى ورقةٌ بحثيّةٌ نشرها الأستاذ المشرف، اعتمد بها على الـ 15% من المرّات التي تدعم نتائجُها فرضيّته، مُهملاً المرّات الـ 85% التي لم تَرُق له.
لم تكن هذه المرّة الأولى التي يتمّ فيها التّلاعب بالنّتائج في هذا الفريق البحثيّ، إذ وعلى مدى السّنوات الثّلاث السّابقة لهذه الحادثة، قُيّض لهذا الباحث الاطلاع على نتائج منشورةٍ لهذا الفريق في عدد من المجلّات البحثيّة المرموقة أوروبيّاً وعالميّاً، تمّ فيها اعتماد الرّقم الأفضل بين عدّة نتائج تكراريّة، دون أخذ القيمة الوسطيّة لمجمل النّتائج بالحسبان، ناهيك عن نتائج تطلّبت عمليّاتٍ حسابيّةٍ معقّدة، نُشرت لتُكتشف لاحقاً أخطاءٌ جسام في هذه العمليّات الحسابيّة، كانت كفيلةً بتغيير النّتائج جذريّاً. كان هذا غيضاً من فيض المشاهدات التي لم يملك هذا الباحث سوى حفرها في ذهنه، لتثنيه لاحقاً عن الاستمرار بالعمل مع هذا الفريق البحثي، لا بل وإدارة ظهره إليهم دونما التفاتةٍ إلى الوراء عقب نيله شهادة الدكتوراه.
تقطع صفّارة القطار عليه شريط ذكرياته معلنةً بلوغه وجهته، إحدى المستشفيات الفرنسية المرموقة التي تحتضن عدّة تجارب سريريّةٍ ودوائيّة لأدوية سرطان مبتكرة وواعدة، وسوى ذلك من المجالات العلاجيّة بطبيعة الحال. من بروتوكولات زيادة الرّقابة والإشراف على سير التّجارب الدّوائيّة في المستشفيات، اللقاء بالطّبيب المشرف على هذه التّجارب ومناقشة ملاحظاته المُسجّلة والصعوبات التي يواجهها فريقه البحثيّ، إن وُجدت، لتطوير الخطّة البحثيّة في مراحلها اللاحقة.
يلاقي الطّبيب المُشرف على الدّراسة الباحثَ المسافر بوجهٍ مُتجهّم. يسأله الأخير عن مُجريات الدّراسة وملاحظاته ومشاهداته، فإذا به ينفجر حانقاً منهالاً بالشّتائم على الشّركات الدّوائيّة وسياساتها الانتقائيّة المنحازة والمحكومة بالأطماع الرّبحية. يحار الباحث بين دورين، ذاك المؤيّد ضمناً لكلّ حرفٍ تفوّه به الطّبيب المشرف على الدّراسة، وذاك الذي يُلزمه بالاحتفاظ برباطة جأشه، كونه في موضعه الحاليّ ممثلاً للشّركة الدّوائيّة التي يعمل بها، ويتعيّن عليه أدبياً الوقوف بصفّها ظالمةً أو مظلومة. يطلب الباحث مزيداً من التّفاصيل حول السّبب الكامن وراء حنق الطّبيب، فيُخبره الأخير بأنّه رشّح أخيراً مريضاً انطبقت عليه حينها جميع شروط المشاركة بإحدى التّجارب الدّوائيّة ومعاييرها، إلا أنّ جواب الشّركة الدّوائيّة أتى بالرّفض، كون فرص هذا المريض بالبقاء ومصارعة المرض شبه معدومة، وأنّ وفاة المريض شبه المحتومة عقب قبوله في الدّراسة سيشكّل علامات استفهامٍ نافرةً لدى مراجعة النّتائج في مرحلةٍ لاحقة من قبل السّلطات الدّوائيّة، ما سيعيق حصول الدّواء على إذن التّسويق، أو سيؤخره في أحسن الأحوال.
لم تكن الشّركة الدّوائيّة مخطئةً في تقديراتها، إذ إنّ المريض لاقى حتفه في غضون أيّامٍ قليلةٍ من صدور قرار رفضه المشاركة في الدّراسة، إلا أن ذلك لم يخفّف من حنق الطبيب على الهيكل وحرّاسه، وعلى صوابيّة قرارات السّلطة المتحكّمة بمقادير أمور البلاد والعباد، ومصداقيّة حُججها. لم يملك الباحث هنا سوى الإطراق صمتاً موافقاً الطّبيب على كلّ حرفٍ مما أتى به، وقد تملّكه شعورٌ بالعجز الكلّيّ، وانعدام حيلته حيال السّير وفقاً لقناعاته. تذكّر هذا الباحث المرّات العديدة التي تطوّرت لديه هو عينه بوادر مرضيّة، لا تُعزى، فضلاً عن العوامل الوراثيّة، سوى إلى الشّدّة النّفسيّة وضغوطات الحياة، كما تذكّر المرّات التي تساويها عدداً والتي أعرض فيها الأطبّاء عن النّظر في حالته وأسبابها المُحتملة، فما بالك في وصف ما يساعد على السّيطرة على أعراضه البيِّنة، فهل كان الأمر في كلّ مرّةٍ من هذه المرّات عائداً إلى تفاهة الحالة، أو لوجود حالاتٍ أهمّ تنتظر عنايتهم، أو ربما إلى سوء مزاج الأطبّاء الفاحصين يومها وحدوث خللٍ في مسارات الكواكب في أبراجهم، أم لعلّه لا وعي هؤلاء الأطبّاء تجاه أصول هذا الباحث، وافتراضهم منافسته لهم على مقدّرات بلدهم، وكأنّه يحصد خيرات هذا البلد متطفّلاً، دونما دمٍ ودموعٍ وعرق؟!
يعود بذاكرته إلى حيث كانت ذاك الصّباح، حيث قضى سنوات التّحضير لشهادة الدّكتوراه، وتحديداً إلى بدايات انضمامه إلى ذاك الفريق البحثيّ، حين دأب زملاؤه الذين يكبرونه عمراً وخبرةً على إخفاء مفاتيح الخزائن التي احتوت على المواد والأدوات المستخدمة في الأبحاث، والتي من المفترض أن تكون متاحةً لجميع من تمّ قبولهم في الفريق دونما تحفّظ، ثمّ إلى تشكيكهم في مصداقيّة نتائجه وصحّة شروط تجاربه ومهاراته العمليّة حدّ الشكّ في إجرائه التّجارب أصلاً! إنّه الفريق عينُه الذي تبيّن فيما بعد إخفاؤه ما لا يروق له من النّتائج وإبقاؤه على ما راق له منها، وصولاً إلى «هدفه الأسمى» وهو نشر العدد الأكبر من الأوراق البحثيّة، ما تُقيَّم على أساسه أهليّة هذا الفريق أو ذاك بالحصول على التّمويل اللازم لأبحاثه المستقبليّة.
أم هل له أن يذكر خواتيم أيّامه في حضن ذاك الصّرح البحثيّ، يوم صدرت ورقته البحثيّة الأولى ككاتبٍ أوّل، وعليها من بين المشاركين في البحث أسماء لم يسمع أو يلتقِ بها من قبل، ليتبيّن له لاحقاً وجود اتّفاقيّاتٍ ضمنيّةٍ بين الفِرق البحثيّة على امتداد العالم تفيد بإدراج أسماء لباحثين على الأوراق البحثيّة لحلفائهم، لتجري المعاملة بالمثل لصالح الحلفاء في مرّاتٍ مقبلة، ويكسب الجميع.
يعود الباحث في نهاية هذا اليوم الطّويل إلى غرفة الفندق، يشغّل التّلفاز لمتابعة نشرة الأخبار المسائيّة، فإذا بالمراسِلة التّلفزيونيّة التي استوقفته صباحاً في محطّة القطارات تتلو رسالة تقريرها، ومفادها أنّ محطّات القطارات في المدن الكبرى الفرنسيّة قد شهدت حركة سفرٍ كثيفةً لسكّان هذه المدن وعوائلهم باتّجاه المدن الأصغر والضّواحي والأرياف لقضاء عطلة الرّبيع القسريّة للمدارس والمعاهد والجامعات، حيث الشّقق والمنازل أكبر، والمرافق أقلّ اكتظاظاً وسط هذه الموجة الجديدة من وباء القرن المتفشّي.
* باحثة سورية مقيمة في باريس