من اقتحام بعد آخر ومواجهة تلو أخرى تتبدى الحقيقة الأساسية في الحرب على المسجد الأقصى؛ أن قضيته رهن بما يقدمه الفلسطينيون من تضحيات في الدفاع عنه، وحدهم تقريباً وبالصدور العارية تماماً. بقوة الصور فإننا أمام شبان عزل يتصدون بالتنادي العام لمنع اقتحام الأقصى من جماعات المستوطنين في حماية الأمن الإسرائيلي، استباحته بالكامل بممارسة طقوس تلمودية وتقديم قرابين داخله، من دون إسناد سياسي يستحق النظر فيه من سلطة فلسطينية، أو من أي نظام عربي. إذا لم تكن هناك إرادة مقاومة من داخل القدس المحتلة تتصدى لحرمة المسجد وباحاته بقصد تقسيمه زمانياً ومكانياً فإن أسوأ السيناريوهات حادثة لا محالة. الداخل الفلسطيني هو مفتاح الموقف في الصراع على مستقبل الأقصى.كان ذلك فحوى رسالة كتبها الأستاذ محمد حسنين هيكل عام 2007 إلى شيخ الأقصى رائد صلاح. في شتاء ذلك العام وقف الرجل وحيداً في مواجهة الجرافات الإسرائيلية، اعتقلوه وهو يحاول أن يوقفها عن عمليات الهدم التي تجري من حول المسجد الأقصى. ثم أفرجوا عنه مؤقتاً، وأنذروه بعدم محاولة الاعتراض، أو التظاهر، أو الاقتراب من محيط المسجد، لكنه لم يتوقف عن العمل من أجل قضية وهبها وقته كله وكرّس من أجلها مؤسسة تحمل اسم المسجد الأقصى والدفاع عنه، فأدخل المعتقلات مرة بعد أخرى.
في ذروة المخاوف من هدم المسجد الأقصى دعا الشيخ «رمزنا الإعلامي والسياسي الكبير محمد حسنين هيكل» أن يعقد مؤتمراً صحافياً لوضع استراتيجية إعلامية لنصرة القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك تتواصل على مدار سنوات مقبلة. لم تكن تلك الرسالة الأولى غير أنها - هذه المرة - بدت أكثر تحديداً في ما تدعو إليه من مواقف وأدوار لنصرة المسجد المبارك.
الرسالة الأولى كتبها الشيخ بخط يده في خريف 2006 مصحوبة بهدية معنوية ذات صلة بمضمون الرسالة - زجاجة زيت مستخلص من أشجار زيتون في باحة المسجد الأقصى. في رسالته المكتوبة أخذ يشرح - بما لديه من مستندات وخرائط - الأخطار التي تحيق بالمسجد الأقصى وتهدد بانهياره. وقد شاءت الظروف أن أكون طرفاً مباشراً في الرسائل المتبادلة، التي جرى نشرها على صفحات جريدة «العربي».
الداخل الفلسطيني هو مفتاح الموقف في الصراع على مستقبل الأقصى


عندما اتسعت مخاوف شيخ الأقصى، وبدأ يحذر من انهيار مفاجئ في بنيانه جراء حفريات اقتربت من عمقه تحت المنطقة المسماة الكأس بين المسجد وقبة الصخرة يليها هدم غرفتين تقعان في حائط البراق، بدا أمامه أن الوقت حان ليقول «الأستاذ» كلمته. «إن قضية الأقصى لا تحتاج إلى دعوة، فخطورتها مؤكدة ونصرته واجبة». و«أنا مستعد لبذل أقصى ما أستطيع من جهد إعلامي وسياسي لنصرة المسجد الأقصى». «إن الأقصى معنى كبير قبل أن يكون معلماً خالداً بالنسبة لنا جميعاً، فهو الحسنيين معاً، إذا جازت الاستعارة، فهو تاريخ القداسة، وهو قداسة التاريخ، الأقصى إلى جانب ذلك كله ماثل دائماً في حياتي، فالله وحده يعلم عدد المرات التي جئت فيها إلى رحابه قادماً عن طريق الخان الأحمر، وهو الطريق المؤدي من أريحا إلى القدس داخلاً من باب رأس العامود، ماشياً من حواري خان الزيت على الطريق الواصل إليه، مصلياً فيه وماشياً منه إلى كنيسة القيامة داعياً، ثم خارجاً لكي أغطي وقائع الأحداث من عام 1947 إلى عام 1948 - وكاتباً في كل ما نشرت بأنها النار فوق الأرض المقدسة، غير أن القضية تتعدى أي شخص وأي مؤتمرات صحافية قد يعقدها، فللكلمات طاقتها وحدودها، التي لا تستطيع تجاوزها إذا لم تستند إلى موقف سياسي شعبي واسع من داخل الأرض المحتلة نفسها، فقد شاءت الأقدار أن يتحملوا هم - قبل غيرهم وفي مقدمة الصفوف - عبء الدفاع عن المسجد الأقصى».
«إننا نتحدث من الخارج، والمعركة في الداخل، وقد كان مشهد اعتقال الشيخ رائد صلاح بالصلابة الإنسانية التي بدا عليها ملحمياً ومؤثراً بأكثر مما تحتمله الكلمات والمؤتمرات الصحافية، أياً كانت القيمة المنسوبة لأصحابها». «بدا رائد صلاح في هذا المشهد الملحمي كمن يواجه أمواجاً عاتية ويبحر في مواجهتها مندفعاً إلى الأمام، وهذه ملحمة إنسانية بليغة بصورها ودلالاتها، وهي ملهمة بأكثر من كلام عاجز من نظام عربي استنفد طاقته على البقاء، وهي مقنعة بوسائلها ورسائلها من أي كلام آخر».
هكذا كان رده على رسالة الشيخ رائد. قلت: «لكن الصور الفلسطينية تتداخل وتختلط، وقد تحدث تشويشاً على ملحمة ما جرى ذات صباح أمام المسجد الأقصى». قال: «أنت تتحدث عن صور فوضى السلاح في غزة، وهي مؤلمة فعلاً وتنتقص من القضية الفلسطينية، ولكن تلك الصور لا تطغى على صورة الشيخ رائد صلاح مندفعاً بين الجرافات الإسرائيلية وحشود أمنها، فلا صورة تطغى على أخرى، وبعض الصور عابرة وبعضها الآخر يبقى أطول من أعمار أصحابها، والصور الملحمية بالذات تخلد في الذاكرة العامة وتحرك الهمم وتلهم المقاومة، التي هي أملنا الوحيد في نصرة المسجد الأقصى وفي إبقاء جذوة القضية الفلسطينية على قيد الحياة». كانت تلك رسالة في وقت صعب، فـ«القضية لا يلخصها نداء ولا يفي بمهامها رجل من خارج ساحة الصراع في فلسطين أياً كان صوته مسموعاً».
وكانت قد مضت سنوات طويلة وقاسية على اليوم الذي خط فيه باسم الرئيس جمال عبد الناصر مطلع ستينيات القرن الماضي في رسالة شهيرة إلى الرئيس الأميركي جون كينيدي: «من لا يملك أعطى وعداً لمن لا يستحق... ثم استطاع الاثنان، من لا يملك ومن لا يستحق، بالقوة والخديعة، أن يسلبا صاحب الحق الشرعي حقه في ما يملك وفي ما يستحق». استقرت تلك العبارة في ذاكرة التاريخ العربي كله. بدت إشارة بليغة لوعد بلفور، الذي مهد لتأسيس الدولة العبرية في فلسطين المحتلة. ما بين وعد بلفور وتهويد ما تبقى من أراضٍ فلسطينية محتلة بدا متأكداً أنه إذا لم يتنبه العرب والفلسطينيون إلى ما قد يتعرضون له من نكبات جديدة فإنها واقعة لا محالة.
بعد 15 عاماً فإن المعنى نفسه، في ظروف أكثر قسوة، يؤكد من جديد الحقيقة الكبرى في الحرب على الأقصى: «شاءت الأقدار أن يتحملوا هم ـــــ قبل غيرهم وفي مقدمة الصفوف ـــــ عبء الدفاع عن المسجد الأقصى».

* كاتب وصحافي مصري