ليست هي الحربَ الباردة. لا. العالم لا يقف على أرجوحة وليس هناك من توازٍ في القوّة العسكريّة وفي إرادة السيطرة. أميركا أعلنت عن طموحاتها بصراحة كليّة في «استراتجيّة الأمن القومي» في عهد ترامب وفي عهد بايدن، في آذار من العام الماضي (كل إدارة تصدر مثل هذه الوثيقة كي تلخّص رؤيتها الإستراتيجية مغلّفة بقناع سميك من الدعاية السياسيّة). أميركا ــــ لو تتابع تصريحاتها وإعلاناتها وفرماناتها عن كثب ـــــ صريحة في إعلان نيّاتها. هي اعترفت بصريح العبارة أنها ستمنع بالقوّة بروز منافسين لها في السيطرة العالميّة الكليّة. ممنوع على دول العالم التفكير ـــــ مجرّد التفكير ـــــ بالصعود أو زيادة النفوذ أو المنافسة. أميركا تعترض بصفاقة على زيادة الإنفاق العسكري الصيني فيما هي تحتفظ بأعلى نسبة إنفاق في العالم، كما أن ميزانيّتها أكبر بثلاث مرّات من ميزانيّة الصين العسكريّة. إستراتيجيّة بايدن الأخيرة اعترضت رسميّاً أن الصين «باتت أكثر إصراراً» على الساحة الدوليّة. لم يعد العالم كما أرادته أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. كان مفترضاً أن تنتهي أي منافسة للولايات المتحدة من أي بقعة من العالم، وأميركا خاضت حروباً في الشرق الأوسط وفي يوغوسلافيا السابقة من أجل تثبيت مبدأ السيطرة العالميّة الواحدة. معاناة الشعوب لا تعنيها البتّة: لم تكترث أميركا لوضع أفغانستان بعد أن تركته لفصائل ابن لادن وغيره ممّن سلّحت وموّلت في سنوات الحرب الباردة، وهي لم تكترث لوضع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. الحرب الروسيّة الوحشيّة في الشيشان جرت في عهد يلستن، دمية الإمبراطوريّة الأميركيّة.
كارلوس لطوف (البرازيل)

أعيشُ في الغرب وأسافر فيه منذ أوائل الثمانينيّات ولا أذكر أنني عشتُ في مرحلة الدعاية السياسيّة الواحدة المُتسلّطة كما أعيشها اليوم. حتى في سنوات الحرب الباردة في الثمانينيّات، عندما حكم ريغان المعبود ـــــ بالرغم من ظهور عوارض الخرف عليه في إدارته الثانية ـــــ ووصف المنظومة الشيوعيّة «الإمبراطوريّة الشرّيرة» كان هناك إجماعٌ على نبذ الشيوعيّة في الحزبيْن الحاكميْن لكن كان هناك أصوات مُعارِضة في داخل الكونغرس تعارض الحصار ضد كوبا وتعارض سياسات التدخّل في أميركا اللاتينيّة. الكونغرس الأميركي سنّ تعديل قانون «بولاند» في ١٩٨٢ و١٩٨٣ لمنع الحكومة الأميركيّة من قلب النظام الشيوعي في نيكاراغوا. هذه المعارضة مستحيلة اليوم. هناك حالة إجماع مخيف وتخوين. لا تشعر أن هناك حتى مساحة ديموقراطيّة شكليّة في دول الغرب عندما تنطلق المدافع أو عندما تتحضّر دول حلف شمال الأطلسي لإطلاق المدافع. ليس هناك من معارضة في أميركا. الوسط واليسار واليمين في خندق واحد وهو يشمل العالم برمّته. في عصر الإنترنت التجييش يطال كل إعلام العالم. تنبتُ مواقع «إعلام جديد» و«مستقل» ـــــ وليس وصف المستقل إلّا إشارة لتمويل حكومي غربي ومن جورج سورس ما يسبغ عليها، برأيها، صفة الاستقلاليّة والحياد ـــــ ولا يجمعُ بين هذه المواقع إلا محاربة مقاومة إسرائيل وتمرير سياسات تطبيعيّة ودعم متعدّد الدرجات لأنظمة طاعة أميركا والحرص على الديموقراطيّة في سوريا وإيران ولبنان (تماماً مثل أجندة مؤسّسة سمير قصير). تقرأ نفس المقالات والتعليقات بالعربية والإنكليزيّة. رابطة الكتاب هنا نظّمت عريضة تأييد لحكومة أوكرانيا ولموقف حلف شمال الأطلسي. تقرأ المئات من أسماء الكتّاب ويطالعك أسماء كتّاب عرب تعرفهم من صحف النظام السعودي أو القطري.
هناك إعلاميّة لبنانيّة في محطة «إم.تي.في» أبدت استغرابها قبل أيّام أنّ هناك نزعات عنصريّة في إعلام الغرب. لا، ليس هناك من نزعات عنصريّة. كل الإعلام الغربي إعلام عنصري ويديره جاهلون في الكثير من الأحيان. في سنوات دراستي العليا في واشنطن عملتُ مستشاراً في شبكة «إن.بي.سي» الأميركيّة وتعرّفت إلى رئيس الشبكة وإلى المديرين وإلى محرّر الشؤون الدوليّة فيها، جيري لامبريكت (أشرف على تغطية سقوط جدار برلين للمحطة). سرعان ما فقدتُ انبهاري بإعلام كنتُ أسمع عنه وأنا في لبنان. كان هؤلاء يتعاملون معي أنا العربي كأنني من كوكب آخر، وكان هذا يفاجئني لأنّ هؤلاء سافروا في كلّ أقطار الأرض ونالوا شهادات من جامعات معروفة. أذكر كيف كانوا يسألونني: هل أنتَ لا ترتدي ربطة عنق لأن الرسول منعها في الإسلام؟ وكنت أردّ: لم يكن في زمن الرسول ربطات عنق أو سيّارات كي يحرّمها أو يحلّلها.
لا تشعر أنّ هناك حتى مساحة ديموقراطيّة شكليّة في دول الغرب عندما تنطلق المدافع أو عندما تتحضّر دول حلف شمال الأطلسي لإطلاق المدافع

الإعلام الغربي بات أكثر راحةً في التعبير عن العنصريّة. هناك ردّة في المجتمعات الغربيّة وهي تظهر في نقاشات انتخابات الرئاسة الفرنسيّة. كنتُ أنظر إلى فرنسا في السبعينيّات على أنها أقلّ عنصريّة من أميركا، لكنها اليوم ـــــ بلد الثورة الفرنسيّة ـــــ باتت أكثر مجاهرةً بالعنصريّة والعداء للإسلام من كلّ الدول الغربيّة. لكنّ الإعلام الغربي المُجمِع صوَّب الأمور: لم يعد هناك من ذرائع عن الحرّية وعن التحرير وعن حقوق الإنسان. كانوا يقولون لنا بصريح العبارة هذا الأسبوع: هذه أزمة من نوع آخر لأن شعب أوكرانيا غربي وشعره أشقر وعيونه «ملوّنة» (لماذا نقول نحن العرب عن العيون ذات اللون غير الداكن أنها ملوّنة؟ وهل ألواننا الداكنة ليست ألواناً؟ هذه مفاهيم عنصريّة نستبطنها ولا نُخضِعها لتفكيك ونقض). أيّام فقط وهبّ كل الغربيّين (حكومات وإعلاماً وشعوباً ويساراً) منادين بتسليح أوكرانيا وبفرض عقوبات ومقاطعة ضد روسيا والروسيّين. أيّام فقط ونسوا وعظهم لنا عن ضرورة الالتزام بمعايير اللاعنف واللامقاطعة في مواجهة عدوان واحتلال إسرائيل. لم يذكر أحد من هؤلاء العنصريّين اسم «جين شارب» الذي قالوا لنا في زمن الانتفاضات العربيّة إنّه يوصينا بقرع الطناجر فقط ـــــ على طريقة «ثوار» لبنان التهريجيّين. أيّام فقط وتحرّك الضمير الغربي على أنواعه وأشكاله. ونحن، بعد عقود طويلة من الاحتلال والعدوان الإسرائيلي لم نحصل على حق رمي الحجر على العدوّ. إدوار سعيد كاد أن يتعرّض للطرد من جامعة كولومبيا بعد أن شوهدَ يرمي حجراً رمزيّاً عبر الحدود مع فلسطين من لبنان (واستغرق في شرح الأمر كي تنتهي الأزمة ولا تكبر، وهي كبرت كثيراً).
ليس هناك من حرّية إعلاميّة في الغرب. هناك تعدّد إعلامي لكن ليس من حريّة إعلاميّة. ١) هناك أولاً موانع ماليّة لتملّك وسيلة إعلاميّة (وهذه الموانع موجودة في لبنان من خلال رخصة التلفزيون أو امتياز صحيفة، إلخ). والموانع الماليّة تزداد ما يزيد من الاحتكار المالي ويجعل وسائل الإعلام محصورة في أيدٍ أقلّ بكثير من قبل. كان يمكن أن تصدر جريدة بمال العائلة قبل ستين أو سبعين سنة، هنا أو هناك. هذا لم يعد متاحاً. لهذا، فإن ظاهرة تملّك أصحاب المليارات لوسائل الإعلام باتت منتشرة في كل العالم. جيف بيزوس صاحب «واشنطن بوست» والعائلة الثريّة التي تملك «نيويورك تايمز» استعانت بتمويل من كارلوس سليم في المكسيك قبل بضع سنوات عندما مرّت الجريدة بصعوبات ماليّة (الوضع المالي لـ«نيويورك تايمز» بات أفضل بكثير كما شرح رئيس التحرير التنفيذي في مقابلة أخيرة في «نيويوركر» وذلك بسبب الاشتراكات العالميّة التي تجنيها صحيفة لم تكن تبيع أكثر من مليون نسخة في كل أنحاء الولايات المتحدة). إعلام السياسة الداخليّة له هامش من داخل صراع الحزبيْن حول الضرائب والتعليم والصحّة والهجرة، لكنّ إعلام السياسة الخارجيّة أضيق بكثير وتنتفي هوامش الاختلاف في حالة الحرب أو في حالة التحضير للحرب. كما أنّ صحافة الغرب كانت تعتمد على خبراء متخصّصين كمراسلين في الماضي. اليوم، هي لا تستثمر في ذلك. هذه مراسلة «نيويورك تايمز»، فيفيان لي، لم تدرس الشرق الأوسط في حياتها ولا تعرف أي من لغات المنطقة لكنها اليوم مراسلة جوّالة في كل العالم العربي لا بل تتضمّن مقالاتها شروحات حول معاني مصطلحات عربية. كأن أشرح لكم معاني مصطلحات في الصينيّة. ومراسلة «واشنطن بوست»، ليز سلاي، وهي بالفعل أسوأ مراسلة غربيّة في التاريخ المعاصر، ترفّعت أخيراً إلى مرتبة مراسلة مطلقة الصلاحية. وهي تخصّصت في تغطية العالم العربي من دون أن تعرف المنطقة دراسياً أو لغوياً. ليز سلاي كانت تعبّئ وتحرّض ضد روسيا على مدى الأيام الماضية، تماماً كمواقع «درج» وميغا الناتو ــ سركيس نعّوم اللذان أثبتتا أن مواقع التمويل الغربي تصطفّ وتضرب التحيّة عندما يحتاجها الغرب. والتحريض الذي يقوم به الصحافيون الغربيّون يفقدك الوظيفة لو كان موجّهاً ضد إسرائيل مثلاً.
ليست مقالات الأمن القومي والسياسة الخارجيّة في صحف الغرب إلا منابر لدوائر الاستخبارات الغربيّة. الكاتب ديفيد اغناطيوس (وهويكتبُ عن منطقتنا ولكنه غير متخصّص فيها وكتابه «عملاء البراءة» عن العلاقة بين بوب إيمس وأبو حسن سلامة شيّق) له مصادر في المخابرات الأميركيّة وفي مخابرات عدد من الدول العربيّة، مثل الأردن والسعودية والإمارات ومصر. الصحافة الغربيّة حضّرت لهذه الحرب لأنها كانت تنشر بلا كيف مقالات منقولة عن المخابرات الأميركيّة وتسريباتها (يروي رئيس التحرير التنفيذي لـ«نيويورك تايمز» في مقابلته المذكورة أعلاه كيف أنه أوقف نشر مقالة بسبب طلب من المخابرات الأميركية). والمقالات تتوالى في الصحف من دون توثيق: مقالة في «واشنطن بوست» تقول إن بوتين مختلّ عقليّاً. تقرأ المقالة الطويلة بعض الشيء كي تصل إلى المصدر الوحيد فيها، السيناتور مارك روبيو (وهو سيناتور يميني رجعي). مقالة أخرى تتحدّث عن عزلة يعيشها بوتين وأنه غاضب. المصدر؟ مقالة صحافية تعتمد على تقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي ينقل عن مصدر وهو بدوره نقل عن مصدر يقول إنه سمع أن بوتين غاضب. «نيويورك تايمز» كشفت اليوم أنّ خطب مندوب أوكرانيا في الأمم المتحدة مكتوبة من قبل مكتب علاقات عامّة مرتبط بالحزب الديموقراطي في واشنطن (وخطب المندوب تكرّر لازمة، أن بوتين هو هتلر. ونذكر أن خطب الموالين لأميركا في المعارضة العراقيّة كانوا يقولون إن صدّام هو هتلر ـــــ نعلم أن مكتب علاقات عامّة في العاصمة كان يساعد في كتابة خطب هؤلاء. وقبله كان هناك عرفات هتلر وقذافي هتلر وبشار الأسد هتلر والحاج أمين الحسيني هو هتلر وعبد الناصر هو هتلر ـــــ وكان أحمدي نجاد من ضمن الذين تلقّوا وصف هتلر لكنه بات محترماً في الغرب بعد انضمامه لخط ١٤ آذار الإيراني وهو كتب قبل أيّام في مديح المقاومة الأوكرانيّة).
عشتُ أميركا بعد ١١ أيلول. صحيح، الجو كان فاشياً وكان هناك حالة خوف وهلع في البلاد عند العرب. ينسى الناس أن مئاتٍ من العرب والمسلمين اعتُقلوا من دون سبب غير انتمائهم الديني والإثني ـــــ وكان سلام الزعتري، الإعلامي اللبناني، واحداً من هؤلاء الذين اعتقلوا، لكنه تفهّم الأمر فيما بعد. الجو مختلف هذه المرّة. كانت أميركا واثقة من نفسها ومن جبروتها في تلك الفترة وكانت الصين وروسيا منصاعتيْن لها آنذاك. هذه المرّة هو صراع الكبار في أوروبا. العرق الأبيض يتصارع، وما على الصغار من الملوّنين إلا الانصياع لأميركا وحلف شمال الأطلسي. ليس بسيطاً أن مواقع لبنانيّة نبتت من أجل دعم ما تسمّيه (تهريجاً) بثورة في لبنان وهي استنفرت هذا الأسبوع كي تضخّ بروباغندا حلف شمال الأطلسي. عبدالله بو حبيب حوّل سياسية لبنان الخارجيّة إلى مجرّد أداة بيد أميركا، فيما حوّل وزير الداخليّة سياسيّة لبنان الداخليّة إلى أداة بيد السعوديّة. لكن الاحتلال في لبنان هو… إيراني.

الغرب برمّته يمنع وصول محطات روسيّة عن الملايين لأن ما تتضمّنه يخالف السرديّة السائدة. والصحافة اللبنانيّة الـ«كول» تشارك في هذه الحرب الدعائية بصفاقة قلّ نظيرها


صدر قبل بضع سنوات كتاب «الإعلام الغربي النافذ والأزمة الأوكرانيّة» وهو يتعلق بأزمة أوكرانيا في عام ٢٠١٤. الكتاب يتضمّن دراسات عن أسلحة الغرب في التضليل والكذب والخداع والمعلومات المغلوطة. الإعلام السائد ينقل عن حكوماته بلا كيف. من الأسلحة التقليديّة في الحرب الإعلاميّة (المذكورة في الكتاب) الإشارة إلى صور للأقمار الصناعيّة وتقول المخابرات الغربيّة إنها تُظهر بلا شكّ كذا وكذا. ولا تقوم وسائل الإعلام بالتشكيك وإنما بالنقل. وتصبح ساحة مواقع التواصل مجرّد ملعب لبروباغندا حكومات الغرب. الغرب ابتدع مفهوم التوتاليتاريّة لكنه لم يكن إلا أداة لتعبئة الناس ضد العدوّ الشيوعي فقط (لم يكن إدراج النازيّة في التعريف إلا بهدف التشنيع بالشيوعية عبر مساواتها بالعدوّ النازي الذي كان العالم كلّه يعتبره ـــــ وعن حق ـــــ شرّ الشرور). التوتاليتاريّة أنواع: منها ما هو مباشر: حيث يقوم النظام القائم، الصدامي أو الإماراتي الحالي بفرض سطوة وقمع منتشر ومكثّف بلا طراوة. الإمارات تقول مثلاً إنها ستفرض عقوبة ١٥ سنة على كاتب تغريدة تخالف مشيئة الحاكم. وكليّة الإعلام (تحمل اسم محمد بن راشد المُستبدّ) في الجامعة الأميركيّة التجاريّة في دبي، تعترف أنها تعدّ تلاميذ الصحافة من أجل اعتناق وخدمة سياسات الحاكم. هذه توتاليتاريّة سهلة التبيّن والتبيان.
لكن التوتاليتاريّة الأخطر هي التوتاليتاريّة الأميركيّة. كشفت معلومات سنودن أنّ أميركا تقيم نظاماً توتاليتارياً عالميّاً لا يعترف بحدود الدول. وكالة الأمن القومي هي وكالة للتجسّس على سكّان الكرة الأرضيّة. لكن أميركا تفرض مراقبة أخطر، لأن الذي يُشارك فيها مختلف قطاعات الإعلام والدولة. تتعاون الدولة مع شركات التقنيّة والتواصل العملاقة من أجل مراقبة ومعاقبة المواطنين. أنا لم أسجَن بسبب تغريدات أو بوستات لكن تعرّضت لمساءلات وطرد من شبكة «فايسبوك» بسبب تعليقات أزعجت المنظمات الصهيونيّة في الغرب. لم أسجن لكن عُزلتُ في مكان خاص والسبب «الإخلال بمعايير الناس»، حسب وصف «فايسبوك» الذي يستعير من لغة المحكمة الدستورية العليا في البلاد والتي منعت العري والإباحيّة تحت خانة «الإخلال بمعايير الناس».
الحرب الحاليّة لا تريد الرأي الواحد. هناك ناس تعترض وتثور لأن موزّع «كيبل» في الضاحية منع هذه المحطة أو تلك. «الثوار» (أضحك كلّما أكتب الكلمة عن حالة لبنان) يقولون إنّ ذلك يخالف حرّية التعبير. صحيح. يجب ترك الناس تتلقّى ما تريد. لكن الدول العربية مجتمعة قرّرت منع محطات عن ملايين من العرب لأنها تزعج إسرائيل. كما أنّ الغرب برمّته يمنع وصول محطات روسيّة عن الملايين لأن ما تتضمّنه يخالف السرديّة السائدة. والصحافة اللبنانيّة الـ«كول» تشارك في هذه الحرب الدعائية بصفاقة قلّ نظيرها. الإعلامي نيشان نشر متأثراً صورة عن معاناة رجل أوكراني. لكن كل الإعلاميّين والفنانيّن اللبنانيّين في دبي ــ بيروت الذين كانوا ينشرون عن فلسطين توقّفوا بمجرّد المسارعة في التوقيع على اتفاقيّات التحالف الإسرائيلي ــ الإماراتي. لم يعد جائزاً التعرّض للاحتلال. جريدة «الشرق الأوسط» الصهيونيّة (التابعة لمحمد بن سلمان الراعي الحقيقي للتحالف العربي ــ الإسرائيلي) باتت تنشر على صدر صفحتها الأولى خبر تعيين عربيّة كسفيرة للعدوّ، وفي الصفحات الداخليّة تقرأ عن لمسات إنسانيّة لجيش العدوّ.
الهيمنة الأميركيّة تتوسّع في العالم العربي. هناك ناس لم تتحرّك ضمائرهم وقلوبهم إزاء المجازر في فلسطين واليمن ذرفوا الدموع مدرارة عن أوكرانيا. لكن هناك أكثر من عشرة آلاف ضحيّة قضوا في «دونباس» والإعلام الغربي أهملهم. هناك ضحايا مدنيون للقصف الروسي لكن البروباغاندا الأميركيّة تختار توقيت ومواعيد الفصل التأريخي لأي حدث. العراق اليوم مثلاً: التحليل العربي له هو أنّ العراق يعاني بسبب النفوذ والتدخل الإيراني. عليكَ أن تنسى أنّ أميركا دمّرت العراق عن بكرة أبيه، دمّرت هويّته ومجتمعه بعد احتلاله لسنوات طويلة. هناك في الصحافة العربيّة بكاء على وضع أفغانستان من دون إشارة إلى احتلال أميركي دام عشرين عاماً. أسابيع من حكم طالبان هي المسؤولة فقط. المشروع الأميركي في العراق ترافق مع حملة بروباغندا عملاقة: محطة «العربيّة» تأسّست كمبادرة سعوديّة لإرضاء أميركا في دحض «الجزيرة»، عندما كانت «الجزيرة» قوميّة عربيّة. ومحطات وجرائد لبنانيّة تلقّت تمويلاً من الغرب للترويج لمشروع الاحتلال الأميركي، كما أن شركات استطلاعات وعلاقات عامّة من لبنان خدمت المشروع الأميركي هناك (كما رفيق الحريري الذي كان شريكاً مع أدوات الاحتلال، مثل أياد علاوي).
تتجه الديموقراطيّات الغربيّة نحو المزيد من أشكال سنّ التمييز والقمع العنصري. منع النقاب والحجاب (باسم الثورة الفرنسية، وهنا الطرفة) أو منع المآذن كما في سويسرا واعتبار الغرب المسيحي (وإسرائيل) حالة تفوّق حضاري تسمح لها بقتل وقمع الغير. الغرب يتجه أيضاً نحو فرض الرأي الواحد: يُسمح لليمين واليسار مناظرة السياسات الداخليّة (إجهاض وضرائب وتعليم وصحة) لكن في السياسة الخارجية والدفاع يتمّ تقنين وتضييق مساحة الحوار. برني ساندرز وإلهان عمر كانا ناطقيْن باسم الناتو هذا الأسبوع، كما باقي أفراد الكونغرس (وكما ميغا سركيس نعوم-ناتو في لبنان). قوانين التعبير عن فلسطين تضيق وتضيق باستمرار بدل أن تتسع مساحة الحوار. لا يمكن لعربي مُجاهر بدعم فلسطين اليوم أن يحظى بمنصب أكاديمي في أي جامعة غربيّة. واليسار الغربي يزداد التصاقاً بـ«الناتو» وهو يستعين بتفسير لا يمكن إلا أن يكون صادراً عن مطابخ البروباغندا الأميركيّة: إن هناك إمبرياليات في العالم، روسية وإيرانية وربما أحياناً قليلة أميركيّة.
أميركا والغرب يعيشون لحظة عنصريّة مفصليّة. الصحافة هنا أخرجت بوتين من العنصر الأبيض وهي تولول أنه يشنّ حرباً على الحضارة الغربيّة. صحافة تقول إنه يمثّل القمع الآسيوي. طلّقوا روسيا من جغرافيتها. الحرب مستعرة لكن البطش والجبروت الأميركي قد يرتدّ عليها كما ارتدّ عليها في حروب ضد خصوم أضعف بكثير من روسيا غير الشيوعيّة. قد نحتاج إلى ربط أحزمة الأمان عمّا قريب.

* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@