لا شك أنّ دراسة شخصية الجماعة أو المجتمع أمر معقّد، لجهة عناصر تشكّلها وصيرورتها، وتحتاج إلى منهج، كأن ندخل إلى معرفته من مدخل الفكر والنظريّة الفكريّة التي يعرّف نفسه بها، أو من خلال السلوك والموقف، أو غير ذلك من المناهج. فكيف إذا ما كنت تحاول أن تلج مجتمعاً يعيش صيرورة مذهلة، مجتمعاً انتقل بعقود قليلة من التهميش إلى المشاركة الوطنية الفاعلة ثمّ إلى صناعة السياسات في الإقليم، وواجه شتّى صنوف التحدّيات بثقة وتصميم كبيرين. مجتمع بات يقرّ الصديق له والخصم أنه حالة ناهضة مستنهضة.يدفعني لطرح الموضوع وطرق بابه، لا لكوني فرداً منه وأعايش تحدّياته، ولا لكوني متحيّزاً له ومفتخراً بانتمائي له فحسب، بل أيضاً من واجب الإنصاف لهذا المجتمع والتعريف بشخصيته في زمان «ما بعد الحقيقة»، وفي زمن تحتاج فيه أمّتنا وشعوبنا اكتشاف ذواتها.
وكون أنّ هكذا موضوع يحتاج إلى بحث علمي وهو أوسع من هذه المقالة، وكوننا لا نتحدّث في عالم اليوتوبيا والخيال، كأن ندّعي أنّنا إزاء بيئة كاملة ليس فيها أي نواقص أو شوائب، سنسعى إلى إثارة الموضوع وإثارة بعض التأمّلات من وحي الملاحظة المعيوشة والتأمّل، ونترك لأهل الفكر والسياسة والتتبع مراقبة السلوك المجتمعي لهذه البيئة منذ ولادتها الجديدة بعيد انتصار الثورة الإسلامية إلى اليوم لإثبات أو نفي هذه التأمّلات.

مجتمع أدرك لحظته ودوره التاريخي
رغم أنه أكثر الفئات اللبنانية عانت الحرمان والتهميش وخذلان الدولة منذ نشأة الكيان، فلم ترَه عاش عقدة الانتقام أو الانطواء ونزوع القوقعة! التاريخ يحدّث أنّه عندما تعيش الجماعات عقدة نفسيّة أو شعوراً مستفحلاً بغربة المظلومية عادة ما تهرب، بدل المواجهة والانخراط، وتلجأ لتبرير انطوائها باجتراح نظريّات، كالشوفينية، أو التميّز، أو الازدواجية (براني – جواني) أو الركون ومسايرة الأقوى لتخفي مشكلتها.
لكن المفارقة أنّ هذه البيئة تجمع، إلى جانب اعتزاز كبير بانتمائها التاريخي وتمسّكها غير المسبوق بمدرستها الفكرية، وضوحاً في الموقف وعدم تذبذب، ولا تعيش عقد التاريخ وتعقيداته. وإلى جانب مظلومية الحد الأقصى التي عانت منها تاريخياً، تراها تتسم بالانبساط وعدم التعقيد وسهولة التفاعل ورغبتها الجموحة في ذلك. فتراها سهلة منفتحة تجد نفسها بالتفاعلية. وتُصر أيّما إصرار على أنّ مستقبلها كائن في هذا البلد ومرتبط به، وبقاء الأخير رهن العيش الواحد وتجسّد القيم الإنسانية فيه وانخراطه الإيجابي الفعّال والحكيم فيها. فترى هذا المجتمع المقاوم اقترب، رغم الإقصاء والمظلومية وتحمّل المسؤولية برغم توافر مبررات التخلي، بل وتقدّم دونما مِنّة أو تلكؤ وتقاذف للكرات، وفي ذلك تأكيد لمعنى أمانة الانتماء للوطن والأرض والشعب والمكونات التي تربطه فيهم معاني العيش الوطني والمصير المشترك مهما كبرت الخلافات وباعدت شقة السياسة.
وهذا المجتمع، الذي يمتلك اليوم أقوى وأرفع نموذج مقاوم في الإقليم، تراه يمتاز اضطراداً بأعلى مراتب ضبط النفس والصبر الاستراتيجي والتحمّل والتواضع والحرص على المجتمع الكلّي وليس على جماعته السياسية فحسب. فلم يغترّ بوهم القوّة ونشوة الذات وخيلائها ولم يحوّل ظلمه التاريخي إلى انفعال، بل عمل بحماسة وتواضع وبعقليّة صناعة الفعل، وأدرك مكامن قوّة لبنان فأصرّ على المشاركة الكاملة والبحث عن المشترك ومدّ الجسور وإعادة تعريف الصراع السياسي وعناوينه بدل الاستغراق في التمايزات وتعزيز التناقضات والهواجس والتطلّع إلى الخارج. أهدى انتصاراته ولم يستأثر بها لنفسه أو يجيّرها لجماعته أو يساوم عليها، اعتبرها فتحاً للعقول والقلوب على المستقبل، ومدخلاً لفهم الذات العربية وتقويمها. وأفلت بذكاء من محاولات إجهاض الأنظمة العربية لها وتجويفها ولا يزال يواجه ذلك بوتائر مختلفة، فقويت معه الشعوب وضعفت الأنظمة وانكشفت، وكانت انتصاراته مدماكاً رئيساً لتطلّعاتها نحو التحرير الخارجي والتحّرر الداخلي والبناء.

نموذجه الديني
اتّسمت تاريخياً الأطاريح الدينية بالقفز فوق الجغرافيا وعبور الخصوصيات، ولم تفلت الحداثة الغربية من ذلك بل مثّلت أكبر مصداق لفرض القيم وتبنّي الثنوية وتجاوز الخصوصيات باسم الليبرالية والديموقراطية، ولو باستخدام القوّة. لا ننكر أنّ هذا المجتمع مرّ بتدّرج في مسار علاقته وتفاعله مع الدولة ـــــ وربّما يكون لذلك مبرراته ـــــ ساعدته على ذلك مزايا مدرسته الدينية وخصائصها، وأيضاً التجربة المعيوشة وفرصها والقراءة المتأنّية للعلاقة مع بقيّة المكونات، ويمكن القول إنّه اليوم يمتلك تنظيراً فكرياً كافياً جسّر به هذا التناقض الموهوم بين الدين والانتماء الوطني وقيمته.
فتدرّج في نظرته للدولة ومسؤوليته فيها وتفاعله مع مؤسساتها ربطاً بالتحوّلات ونضج التجربة حتّى باتت قناعة راسخة من قناعاته وحالة طبيعية في انتمائه، بل غدا التفاعل في الوطن للوطن أصلاً في إيمانه وانتمائه، وتجربته أثبتت قدرة واقعية على هذا الربط والتكامل بين الانتماءين. واليوم بات يعتبر المحاكمة على أساس العطاء والمصلحة الوطنية معياراً رئيساً في التقييم ونسج العلاقات.
إنّ هذه الشخصية تعتبر نقطة قوّة هائلة ومفخرة يجب المحافظة عليها وتنميتها، خصوصاً في زمن التملّق وشراء الذمم وتغيير القيم والمواقف بالبترودولار والاستلاب


مجتمع يولّد قادة
تراه من المجتمعات النادرة في حاضرنا العربي التي تنتج قادة ملهمين لا مدراء مؤسّسات حزبية فحسب. فلم نرَ في التجارب الغربية الحديثة ومن يحاكيها في عالمنا العربي نموذجاً يرتقي لمستوى هذه البيئة في علاقة القائد بالناس والجمهور. فهل لنا أن نفهم كيف أنّ هذا المجتمع المقاوم يخوض غمار التحدّيات والتضحية فينال هذا المستوى من التأييد والثقة؟ تاريخياً قيل: إنّ المجتمعات ترفع من يهتم بمادّياتها، لكن هذا المجتمع شكّل علامة فارقة، فالناس أيضاً ومن باب الأوْلى تهتم بالكرامة والعزّة والمكانة والدور والتطلّع وإدراك الذات والآمال وصناعة التاريخ إلى جانب أمورها المباشرة، فتقدّم هذا المجتمع مع قيادته وخط بنية رشده ونظمه في زمن تتراجع فيه تجارب الأحزاب الكلاسيكية على امتداد العالم وتطوي آخر صفحاتها (هذه العلاقة ارتقت إلى درجة أن القائد يعرض على الجمهور الخروج من الشارع في 17 تشرين رغم مطالبات الأخير المحقّة ورغم الألم الذي يعانيه من القاتلين الاقتصاديين والطبقة السياسية الفاشلة والنظام الاقتصادي المدمر والنظام السياسي الناقص، فخرج من الشارع إلى التصبّر والوعد بأن تبالغ قيادته بالسعي فحسب! سيكولوجية الجماهير تحدّثنا أنه يمكن للشارع أن ينفعل ويسهل على القائد المتمرّس القيام بذلك إذا ما كان ينتهج خطاب ثقة متمادٍ أو إذا كان يحسن استثارة غرائز الناس... فيمكن أن تحرّك الشارع لينفعل وهذا سهل ربما، لكن أن نقول للشارع انسحب أو امتنع فهذا خلاف رغبة الجمهور وسيكولوجيته فضلاً عن ملحاحية حاجاته). هذا نموذج لم يحصل في التاريخ الحديث بحسب قراءاتي، فأي نموذج هذا المجتمع؟ وما هي حقيقة هذا الرابط بين طرفي العلاقة؟ وهل هذا جمهور منفعل كما يصوّر البعض أم جمهور عاقل واعٍ متصبّر وغائيّ!

مجتمع واعٍ وغائيّ
يكفي أن نضرب أمثلة من مواقف وممارسات هذا المجتمع خلال العقود الأربعة:
- تجاوزت هذه البيئة تنظيرات «المواطنة والعقد الاجتماعي» التي تقوم على حق وواجب، أن تأخذ وتعطي، فأعطت من دون أن تأخذ. ولا يعني ذلك أنّه لا يوجد انزعاج وأسى في هذه البيئة من الذين أعرضوا وتنكروا لتضحياتها، ولا يعني ذلك أنّ هذه البيئة غير مزعوجة عندما تقارن إيذاء بعض اللبنانيين لها في مقابل ما تراه وتلمسه من احترام وتقدير لها حتى من أعدائها. لكنها اعتادت أن تعالج بالصبر والتحمّل ونظرية «أم الصبي».
- الصبر على الأذى في سبيل الوحدة، فقدّم الوحدة وجعلها تكاد توازي عظمة المقاومة. فالوحدة هي أصل بالنسبة إليه، فكيف إذا عطِفت إلى هدف إنساني واضح، فتوحّد على القضية والمقاومة، ويبحث عن التوحّد على قضية الاستقلال والمصالح الوطنية والعربية.
- وتزدهي شوارع هذا المجتمع بصور الشهداء بمواجهة التكفيريين في سوريا وتتزاحم على الجدر وفي الأحياء. تراه في مفارقة تؤكّد وعيه وفهمه لما يقوم به؛ يعيشون أفضل حالات التساكن والتسالم مع الإخوة من النازحين السوريين الذين يتوزّعون بين موالٍ ومعارض ويتقاسم معهم رغيف الخبز بكل إنسانية ودونما أي توجيه، ما يشير إلى قدرته على التمييز ووعيه لخطواته وإنسانيّته رغم ضنك العيش.

مجتمع ثوريّ - طموح
أينما حللت ومع من التقيت وكيفما يمّمت وجهك تجد فرداً في هذا المجتمع يغلب عليه البعد الثوري. ربّما هذه خاصيّة متوارثة تاريخياً. إنّ هذه الشخصية تعتبر نقطة قوّة هائلة ومفخرة يجب المحافظة عليها وتنميتها، خصوصاً في زمن التملّق وشراء الذمم وتغيير القيم والمواقف بالبترودولار والاستلاب. فنزعة المقاومة متأصّلة فيه، وعلى غير ما يحاول بعض المتوهّمين تصويره، فإنّه أكثر مجتمع نهم للثقافة والقراءة والنقد الجدّي في كل شيء، كقضية التصدّي للفساد. لكنّه في أعماقه يعرف طبيعة الاستهداف، وأن التغيير الاقتصادي ممرّه سياسي واستقلال حقيقي، والمعالجات بالارتهان لم تعد مقبولة، وخطيئة السلطة لا تبررّ للمعارضة خطيئاتها، وتراه يتفهّم ويفهم صعوبات لبنان وموقف قيادته المستعدّة لتقديم الدماء من أجله فهل ستقصّر في السعي لرفع الغبن عنه وإعطائه حقّه الطبيعي مع بقيّة اللبنانيين!
هو يدرك أنّ لحظته التاريخية وما وصل إليه من حضور تحتّم عليه أن يصل إلى لحظة يجمع فيها إلى جانب سعيه في عملية الاستنهاض وبناء النموذج ضرورة إعطاء القدر الكافي من الحضور للداخل اللبناني، خصوصاً أن جِران المقاومة قد استقرّ وعودها استوى واستقام. ويبدو أنّ مجتمع المقاومة، وفقاً لتجربته المثمرة مع قيادته، يتحضّر للقيام بالأمرين سويّة وبالتوازي والنهوض بالهدفين على السواء بعد جملة الأزمات التي أصابت لبنان أخيراً وبيّنت ضعف البناء وعجز غالبيّة الطبقة السياسية عن القيام بالأمر. فيتلمّس مع قيادته الدخول الهادئ والعميق وأخذ المكان الضروري في الهندسة اللبنانية والإقليمية للمساهمة في رفع آثار الحروب والتبعيّة والفساد بالترميم كمقدّمة للبناء إلى جانب بقيّة الوطنيين والأحرار.
في الخلاصة، إنّ الأزمة التي يعيشها لبنان هي كما غيرها من الأزمات التي ستعبر ويبقى من يستحق وطناً ويستحقه وطنه، سيتقدّم فيها أهل العطاء والثبات وأصحاب الإرادات والعزائم والإيثار والبصائر، أولئك القادرون على التمييز بين اليمين والشمال عند كل مفترق وترتيب الأولويات وربط الجزء بالكل والآني بالآتي. إنها سنن التاريخ، وإنه شعب يستحق أن يُقدَّس.

* باحث لبناني