بهدوء... فلن تقوم قائمة لهذا النظام السياسيّ في لبنان بعد اليوم، مهما حاول القيِّمون عليها وقادة الطوائف فيها منذ «الطائف» وقبله اتّخاذ وضعيّة الجنين في حماية أنفسهم وارتكاباتهم من الضربات واللكمات التي سدّدها لهم الشعب اللبناني، حيث أعمدة الحماية والارتكاز الداخلية والخارجية لهذا النظام الوظيفي قد تزعْزعت وتخلَّعت من أساساتها... فلماذا حكاية ثورة الشعب مستمرَّة وبأيِّ زخم؟ وعلى ماذا راهنت قوى السلطة منذ 17 تشرين إلى اليوم؟المرتكز الأول الذي كانت تتَّكئ إليه السلطة في لبنان ونظامها الريعي، ويشكِّل عامودها الأول، هو المشروع الاستعماري الأميركي الذي ثبَّت هذا النظام وسيطاً كولونيالياً صغيراً وتابعاً منفِّذاً لكلِّ رهاناته في السرقة وتعميم ثقافة الفساد وتبديد الثروات التي هي حق الشعوب، حيث باتت هذه القدرة الأميركية في حماية النِّظام شبه مشلولة وعاجزة عن السير به أقلّه في بناء تسويات في الإقليم كمتمِّم مع باقي الوكلاء في المنطقة. وهذا بات ظاهراً من خلال أجوبة صندوق النقد الدولي على الأرقام الكاذبة المتعدّدة التي رفعتها الحكومة، ومعروف أنَّ صندوق النقد هو العصا الغليظة والأداة الاستعمارية الأولى بيَد أميركا في تطويع الدول والشعوب.
المرتكز الثاني المفقود، هو الدور العربي وبالأخصّ الخليجيّ الذي ما زال يعاند بشدَّة ويمتنع عن مساعدة لبنان، مهما تبدَّلت وجوه السلطة فيه والتي يعتبرها فاسدة وفاقدة للمشروعية في التعامل والاستمرارية، أو في الرهان عليها، كونها هي وسليلاتها منذ عام 1992، هَدَرَت وسَحَبَت واحتالت على مليارات الدولارات العربية والخليجية. وكان رهانها خائباً، سواء لناحية تقريب لبنان وتغيير وجهه السياسي، أو تطويع الشعب وثنْيِه عن المطالبة بأن يكون شريكاً في السلطة وفي القرار، فلم تنفع معهم الريعية إلّا وفق منطق الزبائنية والولاء الأعمى للزعيم الإقطاعي الطائفي الذي يبدّل ولاءاته مياومة. وبالتالي، بدأت هذه الدول تفتِّش عن دور لها صار مفقوداً أصلاً في إعادة الترتيب الإقليمي أمام تعاظم الدورَين الإيراني والتركي، وبعدهما المصري، في استعراض عضلاته، أخيراً.
ثورة 17 تشرين مستمرّة وهي في المرحلة الثالثة ولم تنتهِ لأنَّ أسباب اندلاعها لم تنتهِ بل ازدادت وقويت


المرتكز الثالث الدائم ولو بشكل غير مباشر لهذا النّظام والسلطة المترهِّلة، هو إسرائيل عبر تهديداتها الدائمة وحصارها وافتعالها الحروب، والاستفادة من حال التسعير في الخطاب الفئوي والمذهبي الداخلي الدائم وحوامله في الحكم والإدارة والسياسة والقضاء والخدمات. وإذ باتت اليوم بعيدة عن التأثير المباشر والاعتداءات اليومية، فذلك متعلِّق بالوضع الإقليمي المرسوم بمعادلات النفط والغاز على المتوسط، وبقوة وقدرة حزب الله والمقاومة في رسم قواعد الاشتباك، سواء توافق البعض معه أم لا. من هنا، كان حرص هذه السلطة في لبنان تاريخياً على تفريخ وإعادة إنتاج البلوكات الطائفية والمذهبية، وإثارة النعرات في شوارع بيروت والمحافظات، والتحفُّظ على الخطاب الوطني الجامع لا بل ومنعه. وحتى في ظلِّ عزِّ إعادة إنتاج السُّلطة عبر الانتخابات المفترض أنَّها ديموقراطية، كان منسوب الخطاب الفئوي والمذهبي يعلو في كلّ مكان، فهل استفادت إسرائيل من التفتيت المذهبي الطائفي، أم من الخطاب الوطني العابر للطوائف والمذاهب؟ ومن كان يخدِم على الكيان الصهيوني، منذ عام 1948، تاريخ وجوده المقيت المزروع على أرض فلسطين، عبر تعزيز الفئوية ومنع قيام الدولة المدنية الحقيقية التي يتساوى فيها الناس أمام القانون؟
الركيزة الرابعة لهذه السلطة هي المصارف أو حكم المصرف الذي أمدَّ الشخصيات السياسية عبر مؤسَّسة مجلس النواب ورجالات الدين وأمراء الحرب وأزلامهم ومحاسيبهم، بكلِّ أسباب العيش والبَطَر والتنعُّم ليتفنَّنوا في حكم المجتمعات اللبنانية، شريطة تركهم والتشريع لهم في استباحة البلد وهيكلة المنظومة المالية وهندساتها التي أفْقَدت خزينة الدولة العامة حوالى 90 مليار دولار. وها هي اليوم تقف عاجزة عن السير في تدعيم هذه السلطة، حيث لاحظنا التباينات في أرقام الخسائر أمام صندوق النقد ورمْي التهم بين القوى السياسية الحاكمة، أو تلك التي خرجت إلى المعارضة وكلُّهم متورِّطون في نهْب جيوب الناس وخزائن الدولة، وإذا ما تمادى بعض أركان السلطة لتدفيع المصارف بعض الثمن، فهناك ستكون آخر الحكاية وافتضاح مؤامراتهم وسمسراتهم وشراكاتهم المشبوهة على حساب الشعب، فالكلُّ متربِّص ومستعد على قاعدة: «يا نعيش عيشة فل يا نموت إحنا الكل».
أما عن ثورة 17 تشرين، فهي مستمرّة، وهي في المرحلة الثالثة ولم تنتهِ، لأنَّ أسباب اندلاعها لم تنتهِ، بل ازدادت وقويت، حيث إنَّ الثورة في التغيير هي فكرة تبقى لحين أن تتحقّق. فقد مرّت في المرحلة الأولى في 17 تشرين إلى حين إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري بعد 13 يوماً من الغضب الشعبي. أما المرحلة الثانية، فبدأت منذ تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب إلى اليوم، والتي مُنِعت بدورها، من القيام بأيِّ إصلاحات، أولاً لأنَّ الأميركي دخل مباشرة بالتكافل والتضامن مع أحزاب السلطة واستخدم عصاه الغليظة في منع الإصلاح وتحرير القضاء ومحاسبة الفاسدين، على اعتبار أنَّه قد يركب موجة الثورة ليطوّع بها حزب الله مع بعض الأحزاب وجمعيات الـ«أن جي أوز»، وحصل ما حصل من قطع الطرقات بنَفَس مذهبي لم يعطِ أيّ نتيجة.. هذه المحدودية في التأثير الأميركي على الثورة وفي حماية السُّلطة الحاكمة، أظهرت عجزه وشلّ قدراته باستثناء التهويل بالعقوبات المالية والحصار، وهو غير قادر على السير بها طويلاً. كذلك، أظهر هذا الأمر نظافة ثورة 17 تشرين، كحالة سياسية وطرفٍ بات مهمّاً في المعادلة اللُّبنانية، واتّضح عدم ارتهانها للخارج، بينما تنعقد الآمال عليها في إخراج البلد من حفرته السحيقة. وبانتظار الانفجار الكبير، تبدأ المرحلة الثالثة من الثورة عسى أن يكون البعض قد استفاد من تجارب الماضي والتشعُّبات التي مرّ بها لبنان، لنبني وطناً آمناً سيداً مستقلاً وبعيداً عن منظومات الفساد والتبعية...

*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية