بهدوء...فلا يظنَّنَّ أحدٌ أنَّ انتزاع مخالب الطوائف وزعماء السلطة المذهبية المستحكمة بالنظام، سيكون بالسهولة التي ينشدها البعض ويعمل عليها. ففي ذلك حسابات داخلية كثيرة معقّدة، ليس أبعدها انضمام بعض القوى والأحزاب العلمانية إلى طائفة رجالات الدين والمذاهب، من أجل حماية اللصوص وتمكين النافذين، لتثبيتهم داخل جحورهم الدينية تارة والفئوية طوراً، حسماً للجدل بأنَّ المصلحة الوطنية فرضت عليهم ترك العَلْمنة وتنحيتها مؤقتاً والانكباب على تحصين موقع الطائفة والمذهب المأكولة حقوقه. وفي الحسابات الخارجية، الإقليمية والدولية، لم ينجلِ الموقف بعد، لا سورياً ولا سعودياً ولا خليجياً، لناحية الإصلاحات المُزمَع السير بها من قبل حكومة الرئيس حسان دياب، وخصوصاً في ما يتعلَّق بملف المساعدة من صندوق النقد الدولي. لهذا الصندوق شروطه وآليات عمله الخاصة، التي يرسم بها مسيرة البلد، في ربطه بقافلة التطويع والبدء من جديد بمسيرة الأعباء والديون، وخصوصاً إذا كانت هناك جهات نافذة موافقة عليه تحت عناوين الدراسة وعدم القبول باستعمار من نوع جديد. وقد تعوَّدنا على مسرحيات كثيرة من هذا النوع، تمريراً للوقت الذي تعتبر أحزاب السلطة أنَّه بات ضرورياً.ولهذا رأينا كيف أنَّ بعض قوى سلطة الحكم وزعماء الطوائف وميليشيا الحرب، رضَخوا طوعاً ونزلوا عن السقوف العالية التي رفعوا شعارات الرفض والإنكار فيها بوجه حسان دياب، آملين في أن تتحرِّك مساعدات «سيدر» بملياراته الـ11، وقروض صندوق النقد بملياراته الـ11 الأخرى، لتكون كفيلة بإعادة تقاسم وإنتاج السلطة في ما بينهم، وبإعادة تقاسم المبالغ المالية الجديدة المركَّبة دَيناً على رقبة الشعب اللبناني. ساعتها، سيخضع رئيس الحكومة لأكبر عملية ابتزاز في تاريخ الجمهورية، فيضطرُّ، من أجل تمرير المشاريع وأخذ التواقيع عليها، أن يدفع ما هو متوجَّب لأصحاب القرار والمواقع والنفوذ من زعماء الحرب وميليشيا الطوائف. وبعدها، تلتزم الحكومة وتلزم الشعب الفقير السير في إجراءات التقشُّف المالية التي طلبها البنك الدولي، ليُطحَن الشعب اللبناني مرة جديدة، ويبقى من دون بنى تحتية ولا تشغيل ولا مشاريع إنتاجية، إلى حين استنفاد الأموال. عندها، يُصار إلى النزول الى الشوارع والاعتصامات الدائمة، فتَسْحَب قوى التسلُّط الحاكمة يدها من الحكومة، وترميها أرضاً، وتتَّهم من جديد الناس الموجوعين بتنفيذ أجندات غربية استعمارية أميركية وصهيونية، ونعود إلى تبادل الاتهامات بسبب فقدان الصلاحيات الطائفية والمذهبية للحكم الفاشل...
وكي لا يُنظر إلى كلامنا على أنه افتراءٌ وافتئات على أحد، تكفي الإشارة إلى لحظة تحوّل حاكم المصرف المركزي رياض سلامة إلى ممثِّل للسُّنية السياسية، بينما استنفرت المارونية السياسية في بكركي واعتبرته خطاً أحمر، كما اعتبره الرئيس نبيه بري ضمانة لسعر الصرف، رغم تجاوزه عتبة الـ4000 ليرة لكل دولار. ويمكن الإشارة أيضاً إلى أنه في البلد الذي سلَّم كلَّ أوراقه إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بموافقة الجميع من دون استثناء، ادَّعت القاضية غادة عون على 21 شخصاً في قضية الفيول المغشوش، وأصدرت أربع مذكّرات توقيف غيابية بحق سركيس حليس وأورور فغالي وممثِّل ZR في لبنان تيدي رحمة، ومدير الشركة إبراهيم الذوق. كما أصدرت 14 مذكّرة توقيف وجاهية بحق 14 موظَّفاً وموظفة في المختبرات التابعة لمنشآت النفط، فيما ادَّعت بجرم التزوير واستعمال المزوّر وقبض رشاوى وتبييض أموال واحتيال واستغلال نفوذ... ليؤدي ذلك إلى استنفار الغرائز الطائفية مع زعاماتها، ومنع القضاة من العمل، فاحْتجروا في منازلهم مع سماسرتهم متمتِّعين بحصاناتهم السياسية التي رفض مجلس النواب إقرار منعها وسحبها في جلسته الأخيرة. أمام هذا المشهد، هل فهِم اللبنانيون سبب عرقلة مِلَفِّ الكهرباء؟ هل هؤلاء المتورِّطون لهم علاقة بالأجندة الأميركية ــــ الترامبية وتنفيذها في لبنان؟ وهل ستتَّخِذ الحكومة القرارات اللازمة لمتابعة الملف حتّى النهاية، أم أنَّه سيخضع للتجاذبات والحماية الفئوية؟
أمام واقع متفلِّت من أيِّ ضبط لإعادة مسيرة بناء ما تبقّى من دولة، تخرج علينا أفاعي الطوائف من جحورها بعدما دخلتها في 17 تشرين الأول، وتطلُّ برأسها لتتناتش بقايا المشاريع والسمسرات والصفقات والتعيينات، علَّها تفسح المجال أمام إعادة دورة الحياة الريعية وطرح برنامج جديد لسرقة الأموال العامة، محميَّة ومتسلِّحة بالطائفة والدين والمذهب والميليشيا، لحكم الناس، مدّعية الوطنية وقهر المستعمر. من هنا، نجح بعض قوى السلطة وأحزابها في تسميم جسم انتفاضة 17 تشرين بكوادر وأفراد حزبيين، لشقِّ وحدة الصف والموقف في الأحداث الأخيرة، والاحتجاج على المصارف وتكسيرها والتعدّي على الجيش، من أجل إبعادها عن الحلبة التي بدأت تضيق ذرعاً بها وباحتجاجاتها اليومية على مساحة الوطن. ونجحت كذلك، في منع توحُّد قوى المعارضة المذهبية بزعمائها وفصائلها السياسية، وهو ما ظهر في لقاء بعبدا الأخير. ربّما ستكون المساحة الزمنية في تمرير الوقت سيِّدة الموقف في لبنان، إلى حين الانتهاء من أعباء «كورونا» أو التخفيف من الضغط الاقتصادي الأميركي المستمر، ريثما ترتسم معالم جديدة في الإقليم...

*أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية