تتضح أكثر فأكثر ملامح الهجمة التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، وتأتي الدعوة لورشة المنامة الاقتصادية في البحرين، التي من المقرّر أن تضم دولًا، ومنظمات، وشخصيات ومستثمرين، لتظهر وبشكل أكثر وضوحاً «السلام» الذي تسعى إليه الولايات المتحدة، والذي سُمي في ما سبق، بـ«السلام الاقتصادي». هذا المشروع خطير بكل ما للكلمة من معنى، لأن مضمونه، يقلب محاور الصراع في المنطقة رأساً على عقب، بما ينسجم مع رؤية «إسرائيل»، لنفسها ودورها في المنطقة، وبما يؤهلها للعب دور إقليمي وازن، وفاعل على المستوى العالمي. إنه بحق استراتيجية متكاملة وشاملة، ليست فقط للتعامل مع القضية الفلسطينية، بل القضايا المطروحة كافة في المنطقة، أي إعادة صياغة حقيقية للمنطقة لإعادة بنائها على أساس الرؤية الإسرائيلية الأميركية.فكرة السلام الاقتصادي ليست بجديدة، فقد بدأت منذ زمن، وقد تحدث عنها العديد من قادة «إسرائيل» من اليمين واليسار، طرحها شيمون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، وقدم إسحاق هرتزوغ العديد من الأفكار فيها، في ما أنكر بنيامين نتنياهو في كتابه «مكان تحت الشمس» وجود الفلسطينيين أصلاً، وتحدث عنهم بصيغة الأقليات وحدد كيفية التعامل معهم، وحل مشكلاتهم ذات الطابع الإنساني والحياتي، وبشكل متدرج بعد أن اعتلى سدة السلطة، بدأ الترويج لأفكاره، بمقولة «لا يوجد شريك في المفاوضات»، مبرراً رفضه استمرار المفاوضات، فانسحب تدريجياً من التزامات أوسلو، وتسارعت بشكل مطرد عمليات الاستيلاء على أراضي الضفة، وبناء المستوطنات التي تضاعفت مرات، وكل ذلك على حساب جغرافيا الدولة الفلسطينية الموعودة، التي تحولت شيئاً فشيئاً إلى فكرة موؤدة.
وتحت ضغط السياسة الجديدة للولايات المتحدة الأميركية في عهد إدارة دونالد ترامب، كانت السلطة الفلسطينية ترضخ بين الحين والآخر، فقد وقّعت في 2017 عدداً من الاتفاقيات، برعاية المبعوث الأميركي جيسون غرينبلات، حيث التزمت السلطة الفلسطينية من خلالها شراء مياه محطات التحلية التي سيتم بناؤها في إطار مشروع «قناة البحرين»، ويلزم الاتفاق السلطة شراء 32 مليون متر مكعب من المياه التي ستنتجها محطات التحلية التي ستدشّن في تخوم مدينة العقبة الأردنية، وليس بعيداً عن «ورشة المنامة الاقتصادية» في البحرين، فإن قناة البحرين المنوي إقامتها بين البحر الأحمر والبحر الميت، وتضم ثلاثة أطراف «إسرائيل» والأردن والسلطة الفلسطينية، تعتبر مشاريع تحلية المياه المذكورة أعلاه، شرياناً حيوياً في تأمين البنية التحتية الضرورية، لتسارع، وتوسع مشاريع الاستيطان في الضفة، وغور الأردن.
بهذا المعنى، فإن الانقسام الفلسطيني بسلطتيه، في غزة ورام الله، من حيث تدريان أو لا، ديناميات تفعل فعلها لإضعاف مناعة الجسد الفلسطيني، في مواجهة «صفقة القرن». حين تجاوزنا مسألة الخلاف السياسي، إلى إشاعة أجواء مدمرة تكرس الانفصال الكلي بين الضفة وغزة، وفيما تعيش غزة حصارها الدامي، عصية على جيش الاحتلال، يحاول عرابو الحلول الإنسانية ترويضها وإخضاعها.
تنطلق فكرة «السلام الاقتصادي» من إنكار الرواية التاريخية الفلسطينية والعربية


يؤدي القطريون دورهم في غزة مستعينين بجوع أطفالها الذين أنهكهم الحصار، وبالترويج لمشروع الحلول الإنسانية، وهو الدور ذاته الذي يؤديه الثلاثي السعودي، الإماراتي، البحريني، في «الورشة الاقتصادية في المنامة».
إن اختلف العرب فيما بينهم، فهم متفقون وملتزمون بتنفيذ الرؤية الأميركية الإسرائيلية للتعامل مع القضية الفلسطينية والمنطقة عموماً، فهم الآليات التنفيذية للمشروع الأميركي الصهيوني للسيطرة على المنطقة، وكل من موقعه يؤدي دوره بإتقان، فيكملون المشهد، كأننا أمام لعبة «بازل» ضخمة. ثمة خلاف قطري، مصري، وآخر داخل مجلس التعاون الخليجي، قطري، سعودي وإماراتي، يختلفون حول كل شيء تقريبا، عدا الانصياع لرغبات السيد الأميركي، طلب رضاه وتبني رؤاه.
ماذا تعني اتفاقيات الغاز بين مصر و«إسرائيل» لمدة عشر سنوات، وبما يقارب 15 مليار دولار. واتفاقيات الغاز الأردنية الإسرائيلية، ومشروع قناة البحرين (البحر الأحمر والبحر الميت)؟ هل حصار إيران، ومحاولات خنقها اقتصادياً خارج استهدافات هذا المشروع؟ حين يتحدث المسؤولون الأميركيون، أو الصهاينة، أو العرب عن النفوذ الإيراني في المنطقة، فهم لا يشيرون إلى نفوذ إيران الاقتصادي، أو الديني، بل يقصدون بالتحديد، دعم حركات المقاومة التي تواجه المشروع الصهيوني الأميركي. تنطلق فكرة «السلام الاقتصادي» من إنكار الرواية التاريخية الفلسطينية والعربية، وإن الفلسطينيين ليس لهم حق تاريخي في الجغرافيا، وهم جماعة سكانية ليس لها حق التحرر والتطلع نحو الاستقلال، وهم بحاجة فقط إلى رفاه اقتصادي، حياة كريمة، مأكل، ومشرب، وملبس، وعلى هذا الأساس تصير حتى فكرة الدولتين مرفوضة. إن إنكار الحق التاريخي للفلسطينيين لا يعني فقط إنكار وجودهم كفاعل سياسي يقرر مصيره، بل هو في الحقيقة إنكار الحضور، والدور العربي برمته، كفاعل مقرر في المنطقة، وبالتالي فإن العرب إن لم يكونوا مقررين في تثبيت الحق التاريخي الفلسطيني، فإنهم لن يكونوا مقررين في مصيرهم وقضاياهم، ولا حتى في عروشهم، كما يقول لهم ترامب صبح مساء، هم أبواق وجيوب تشتري بقاءها على عروشها فقط، مقابل تسويق مخرجات الاستسلام من منطق المصلحة الأميركية الصهيونية. وفي حالة الانهيار، والتفكك، والتسعير المذهبي الحالي، فنحن أمام توظيف معلن للواقع العربي الرديء، لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة، وظهر ذلك بشكل جلي، من خلال قطار التطبيع الرسمي بكل أشكاله السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وغيرها.
إن دور الجامعة العربية بمكوناتها الحالية، والخليجية خصوصاً، أكثر من مشبوه. إنه شريك كامل في القضاء على القضية الفلسطينية، وهذا ما تمثله صفقة القرن، واستهلالها ورشة المنامة في البحرين إعلان عريض للشراكة الكاملة في الرؤية، والآليات التنفيذية، لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي مهد له منذ سنوات عديدة وعلى مراحل، وصولاً إلى ما سموه «الربيع العربي» الذي شكّل البيئة المناسبة لإعادة صياغة المنطقة على أساس مذهبي إقليمي، يستوعب «إسرائيل» بدور محوري رئيس على المستويات الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية. وفي مواجهة إيران، ومحور المقاومة، طبعاً على إنقاذ مشروع العروبة، الذي بدأت إرهاصاته الأولى منذ مطلع القرن الماضي، وتبلور في العهد الناصري، بمضمونه العروبي، والتحرري، وفي القلب منه قضية فلسطين.
*عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين