لي ملامة على الذين يصفقون اليوم لسعد الحريري من الأتباع والأنصار. أريد أولاً، تبديد شكوك أصحاب الظنون، الذين يضعون الناس في خانات هويات طائفية، ويظنون أن أي معارض للحريري، لا بد أن يكون من مناصري جماعة «8 آذار»، أو شيعياً، او سورياً قومياً، أو شيوعياً، أو ما شابه. ليسترح أصحاب الظنون، وحَمَلة الأختام منهم بنوع خاص، فأنا لست من أصحاب هذه العقائد في شيء، ولم أنتمِ في حياتي إلى أيّ عقيدة دينية أو سياسية، وقد أذعت ذلك وكتبته غير مرة في «النهار» وغيرها.
وقلت إنني مواطن عادي يريد العيش في دولة لا يحكمها صيارفة الهيكل ولصوصه، دولة مدنية حرة عمادها العدالة والقوانين، ولا سلاح فيها إلا سلاح الدولة السيدة، لا سلاح «حزب الله» ولا سلاح أي حزب آخر، ولا سلاح الشرعية الفارغة التي يتغنى بها المنضوون في «المستقبل» وتيار «14 آذار». وأنا أثق أن الدولة المدنية هي الحل الوحيد الذي لا حل لنا غيره لهذا الوطن المثقل بالأوجاع.
ولان موضوع سعد الحريري هو حديث الساعة، أعود إلى مقابلة الزميلة بولا يعقوبيان مع الحريري في الرياض. وأخاطبها وعبرها الآخرين:
أعرفك جريئة وذكية، لكن ربما يكون قد غاب عن بالك أن تطرحي على الحريري الأسئلة الأساس التي تتصل بأساس الدولة وبنيانها، لا أن يكون الحوار كله منصباً على مسألة عودته إلى لبنان، إذ بدا، كأنه المخلص الذي على يديه يبرأ لبنان من أوجاعه، وينهض من بين الأموات، وهو في الحق، ليس إلا واحداً من الجوقة الحاكمة التي يعاني اللبنانيون من سوء إدارتها، والتي لم تجلب على البلد غير التشرذم والخراب.
قال الرجل إنه رمى من فعل الاستقالة إلى إحداث صدمة، وكان على حق، فقد أحدثت فعلته ذلك، لكن أول المصدومين كانوا أهل النظام، من رأس الهرم إلى أدناه، الذين طالبوه بالعودة، لأن غيابه يخل بالتركيبة الطائفية التي هو جزء منها، والتي عليها يستندون في حكم البلد، وسلب خيراته. من ثمّ أريد أن أسألك وأتساءل: كيف يمكن أن يكون بلدنا حقيقياً، إذا كانت فعلة أحد حكامه تُحدث مثل هذه الصدمة؟ بل كيف يتوقف استقرار بلد حقيقي، على موقف فرد منه مهما كان شأنه؟ لو كان أساس لبنان ثابت، لا من قش هش، لما أحدثت فعلة الرجل هذه الصدمة التي قال إنها «إيجابية»، على الرغم من أنه يدري أكثر من غيره، أنها أحدثت بلبلة بين الناس، وأصابتهم بالهلع، وجعلتهم يتوقعون الحروب، وحملت بعضهم على سحب أمواله من البنوك، وتحويلها إلى خارج البلاد.
قبل أن يحدث الحريري تلك الصدمة «التاريخية» بأسابيع، كان في لبنان، وقال بعد اجتماعه مع حليفيه نبيه بري ووليد جنبلاط: «اتفاقنا ينقذ البلد»! هكذا بكل سهولة يقول إن اتفاقه وِشخصين آخرين ينقذ البلد! أي بلد هذا إذا كان إذا كان أمنه واستقراره، مرهوناً بمزاج فرد أو ثلاثة أفراد، مهما كان شأنهم في الحياة العامة؟ أهذا هو لبنان الذي نريده آمناً مستقراً لنا وللأجيال الآتية؟ مهما يكن فقد أخلّ الحريري بهذا الاتفاق عندما استُدعي إلى السعودية وأحدث تلك الصدمة. أخجل، أن ننتمي إلى بلد كهذا. أليس منطقه منطق رجال العصابات، لا رجال ونساء الدولة السيدة الحرة؟ إذا كان الأمر كما أقول، لا يكون سعد الحريري عندئذ زعيماً وطنياً مهما حاول أن يسّوق نفسه بالقول إنه يمثل كل اللبنانيين، ولا أحد غيره من المتربعين اليوم على كراسي الحكم يستحق هذا اللقب الشريف، لأن أهدافهم القريبة والبعيدة صارت معروفة، وهي أن يبقوا أسياداً على حساب الوطن وخيراته ومصالح شعبه.
ما فتئ الحريري يضع اللوم على سلاح حزب الله، لكنه يعرف أنه لو لم يكن هذا السلاح موجوداً لما كان هو رئيساً للوزراء، فقد ورث الزعامة عن أبيه، وتعززت زعامته من كونه «سنياً» يقارع حزب الله «الشيعي» في لبنان. هذه هي الحقيقة العارية. أما الحقيقة الثانية فهي أن اللبنانيين لم يعرفوا حكاماً وطنيين في المطلق، ولم ينعموا بيوم واحد من الحرية منذ رحل الفرنسيون عن أرضهم، وما احتفالهم بعيد «الاستقلال» إلا مهزلة ما بعدها مهزلة.
إذا كان هناك دولة يحق لها أن تفرح بهذا العيد فهي فرنسا، لأنها خرجت من هذا المستنقع الذي صار لبنان! قد يناسب حكام لبنان «الوطنيين» أن يحتفلوا بهذا العيد، لأنه مكّنهم من الإمساك بمقاليد السلطة التي كانت بيد «المستعمرين». لكن ما الذي فعلوه بهذه السلطة، غير إشعال الحروب وتقسيم البلد والناس؟ كان جورج نقاش يقول ضدان لا يصنعان أمة. بهذا الوتر من الضدين يرأس الحريري «السنّي» اليوم رئاسة الوزراء، ويتربع بري «الشيعي» على كرسي المجلس النيابي، ويحلو لجنبلاط «الدرزي» أن يظل أميراً على الجبل، ويصبح ميشال عون «الماروني» رئيساً للجمهورية!
ربما يجب تذكير الناس بحقيقة أن جماعتي 8 و 14 آذار هم أعداء لبنان، ولا خير في أي واحد منهم مهما قالوا وفعلوا. الحريري، لم يقل إن النظام اللبناني الذي هو أحد ممثليه الكبار فاسد يجب تغييره، بل صب جام «غضبه» على حزب الله وزاد بالقول إنه (أي الحريري) يمثل كل اللبنانيين، ناسياً أو متناسياً أنه ممثل لطائفة، مثله كمثل الآخرين من أفراد جوقة الحكم. نعم، ثارت الحمية الوطنية عند اللبنانيين. وهم، لطيبة قلوبهم، ولفرط ما فقدوا من الآمال، صاروا يتعلّقون حتى بحبال الهواء، ليشعروا بشيء من الاطمئنان، وبأن لهم وطناً حقيقياً. لكنها حمية عاطفية لا يمكن أن تدوم، لأن هذا النظام الطائفي سوف يجهضها وهي في المهد، ويقضي عليها قضاءً تاماً، أو يحولها إلى سياسة كره وعداء تجاه أحد الأطراف! أؤكد لك أن هذا ما سوف يحصل، لأن أهل النظام لا يمكن أن يستمروا في الحكم، إلا إذا كان البلد منقسماً على ذاته، مشتتاً بين شيع ومذاهب!
هنا أود أن أخاطب السيد الحريري وأقول له: تأخذ سلاح حزب الله تعلة يا سعد، لتبني لك مجداً؟ ألفت نظرك أيها الوارث زعامة أبيك، إلى أن لبنان لو حافظ على الوصية التي تركها البناؤون الفرنسيون، وصار دولة علمانية كما هي فرنسا، ما كانت «سياسة توريث الكراسي» قاعدة من قواعد الحكم في لبنان، وأنت أحد المستفيدين من هذه السياسة، وما كانت إسرائيل تجرأت على غزو لبنان، وما كان حزب الله وجد، ولا ظهر سلاحه. وأنت خير من يعرف أيها الوارث، أن هذا الحزب لم يخرج من لبنان «الدولة» بل خرج من لبنان «المزرعة»، وهذه المزرعة ما زالت قائمة، ومن طالع سعدك يا سيد سعد أنه مزرعة، وإلا ما كنت اليوم في منصبك. أحب أيضاً أن أذكّرك إن كنت ناسياً، أن هذه المزرعة هي التي صنعت اتفاق الطائف المشين الذي رعاه والدك الراحل، وصنعت قبله اتفاقاً آخر مشيناً، عنيت به «اتفاق القاهرة» الذي رخص لبندقية «أبوات» الفصائل الفلسطينية، ومكّنهم من التحكم بمقادير لبنان، وهم بدلاً من أن يقتلوا نسراً من نسور صهيون الشرسة، شاركوا في أعراس العبث والجنون، وصوبوا بنادقهم على عصافير الداخل، وشاركوا في محنة مؤلمة دامت سنوات طويلة، لا يزال اللبنانيون يعانون ذيولها إلى اليوم.
لا أجد غير هذه الكلمات أعبر بها عن حالي كمواطن لا يزال مهجراً في المهاجر البعيدة منذ أربعين عاماً. إنه من العار الذي ما بعده عار أيضاً، أن يكون في هذه الدولة اللبنانية وزارة اسمها «وزارة الخارجية والمغتربين». هل يعقل، أن تهجّر دولة أبناءها إلى كل أطراف المعمورة، ثم تعتز بهم وتتغنى بوجودهم في الخارج، وتفرد في بيانات دخلها السنوي العام، مادة اسمها «تحويلات المغتربين»؟ أليس مثل هذه الدولة، كمثل رب بيت يطرد أولاده من الدار، فيتيهون في الفيافي والقفار والصحارى والأدغال، ثم يطلب منهم أن يمدوه بالمال؟! من ثمّ، من استفاد من تحويلات المغتربين؟ أليسوا هم القطط السمان، زعماء البلد من آكلة البيض وقشوره، وزبانيتهم الواقفين معهم في السراء والضراء؟ أعرف أنني أغيظ الخراف الضالة من اللبنانيين «سنة وشيعة ودروزاً وموارنة ومسيحيين آخرين» (يا له من توصيف مقيت) الذين ما برحوا من شدة الخوف يجلون الأصنام والأيقونات والتماثيل، ويصفقون لهذا الزعيم أو ذاك، لكنها حقيقة لا يجب أن نتخلى عن الجهر بها إذا أردنا أن نكون مواطنين أحراراً من أمة حرة، وحرصاء على خير البلد ومصالح الناس.
لا يا أعزائي، لا سعد الحريري ولا غيره من الممسكين بمقاليد السلطة في لبنان يمكن وصفهم بـ«الزعماء الوطنيين»، لأن نظام بلدنا يفرز زعماء طوائف. من ثمّ، ألم يكن الحريري في لبنان، وكان رئيساً للحكومة لمدة سنة وأكثر، فما الذي فعل، وما الذي أنجزته هذه الحكومة غير المزيد من فقدان الأمل لدى الناس؟ قد يقول الحريري الذي يأخذ حزب الله ذريعة، إن هذا الحزب حرر جنوب لبنان من الصهاينة، لكنه لم يحرره من التبعية للخارج. لكن في المقابل، ماذا فعل الحريري ليحرر لبنان من التبعية للخارج؟
ألم يقدم استقالته من بعيد، وفي أداء غريب ما زالت تحوم حوله الشكوك، ولا نظير له في تاريخ الديبلوماسية؟ ألم يكن هذا التصرف من جانبه تكريساً للتبعية الخارجية بامتياز؟
أما سلاح حزب الله فلا أحد ينكر أنه أفاد في مرحلة من مراحل الصراع مع الصهيونية، وهذا تاج الحزب الذي لا غبار عليه، لكن هذا السلاح، لم يعد في نظر فئات لبنانية سلاحاً وطنياً، ويراه البعض سلاحاً مذهبياً، وآخرون يرونه سلاحاً فارسياً، وما شابه من نعوت تزيد حدة الكراهية، ويدفع البلد جراءها أثماناً باهظة من مستقبله ومستقبل بنيه. أقول ما أقول، لا لأسجل موقفاً سياسياً من هذا الحزب، بل إشارة إلى واقع لبنان الراهن، ومكانة حزب الله فيه، علماً أن القيمين على هذا الحزب، يعرفون كيف تتبدل الظروف، وتأخذ طرقاً مختلفة المفارق، وهم أكثر الناس دراية بها وبذيولها على الأرض!
كلمة أخيرة، آمل أن يتذكرها الحريري، ولا يتركها تغيب عن باله، وهي أنه لو لم يكن «سنياً» لما أتته الزعامة منقادة، فلا يقل بعد اليوم إنه يمثل كل اللبنانيين، ولا يرطن بكلمة الشرعية، ولا يدع أنصاره يعزفون لحن الدولة الموهومة. الحقيقة العارية الجارحة أن سعد الحريري زعيم «طائفة» ولا شيء غير ذلك، ووجوده في الحكم إلى جانب زعماء الطوائف الآخرين، يؤخر قيام الدولة الحرة المرتجاة التي يحلم بها اللبنانيون الأحرار، والتي هي خشبة الخلاص الوحيدة لنا في بحر هذا الشرق المتلاطمة أمواجه. أما الكلمات المعسولة التي ما برح يرددها الرجل في غير مناسبة، ومنها أنه حريص على إرث رفيق الحريري ضنين به، وتلك الدموع التي كان على وشك أن يذرفها على الشاشة من الرياض، وهو جالس في داره الواسعة الفارهة في الرياض، فلا قيمة لها في ميزان العدل والمساواة والرحمة، وهي ليست شيئاً، إذا قيست بقطرة دم طفل فقير، وآهات مواطن محروم في هذا الوطن المعذّب.
* كاتب لبناني