يمتاز علم الجمال الماركسي في سعة وشمول الموضوعات التي يتناولها ويطرحها للبحث. وعبر الديالكتيك، يتم السعي نحو تحقيق وحدة نظرية كبرى بين أهم تناقضات المسائل الجمالية والفنية: بين الزمني والأزلي، بين المطلق والنسبي، بين الجزئي والكلي، بين الذاتي والموضوعي. ليغدو لدينا في نهاية المطاف، منظومة فلسفية جمالية خطرة ومعقدة، لا يجوز التعامل معها بخفة أبداً. فعلم الجمال الماركسي يطرحها بوصفها جملة حلول فلسفية على الفكر الفني المعاصر.
إذا أردنا العودة بالمسألة إلى الجذور، نجد أن كارل ماركس فعلياً لم يكتب سوى نصّي نقد فني وأدبي في حياته. الأول في كتاب «العائلة المقدّسة أو نقد النقد» الذي كتبه مع فريدريك أنجلس وانتقدا فيه رواية «خفايا باريس» للأديب الفرنسي أوجين سو، بالإضافة إلى نقد للتعليق الذي خصصه ناقد ينتمي إلى تيار الهيغيلية اليسارية يدعى سيزلكا حول الرواية نفسها. أما النص الآخر لماركس في موضوع النقد الفني، فهو مضمّن في رسائله الشهيرة مع فردينان لاسال بشأن مسرحية الأخير المسماة «سكنغين». مع العلم أن معاصري ماركس نقلوا عنه اعتزامه نشر دراسات عن الفن الديني والحقبة الرومانسية، كما نقل عنه بول لافراغ صهره ومعاصره عزمه على تأليف كتاب عن أونوريه دي بلزاك الذي كان ماركس من أشد المعجبين به وبأدبه. وإن دلّ ذلك على شيء، فهو يدلّ على مدى اهتمامات مؤسّس الماركسية بالمسائل الجمالية والفنية التي أخذت حيّزاً ليس بالقليل من أفكاره ودراساته.

رسمت الجمالية الماركسية
خطاً مستقلاً عن مقولات
وتوجّهات «انعدام الموضوع»


لعل جذور الجمالية الماركسية تجد أسسها الأولى لدى الفيلسوف الألماني هيغل، الذي أقام الصلة «بين الأشكال الاجتماعية والأشكال الفنية»، آخذاً حالة الفن التشكيلي الهولندي نموذجاً، حيث رأى هيغل أن «معجزة الرسم الهولندي ــ على سبيل المثال ــ هي في أنه ينطوي على جوهر الحياة والطبيعة في البلاد المنخفضة». فسرُّ رامبرانت وبروغل وفاميير يكمن في اضطرار الشعوب الفلمنكية إلى خوض النزاع القاسي مع الطبيعة الشحيحة، وإضفاء المباهج حتى على المظاهر الأكثر اعتيادية وابتذالاً كنوع من إعادة القولبة الجمالية لواقع غير جميل. إنه وبحسب هيغل نشاطهم الذاتي «وإحساسهم الفرح بالذات» ما يؤلف مضمون رسوماتهم.
قد لا يتفق ماركس مع هيغل حول نتائجه الجمالية، لكنه تبنى منهجه بالتأكيد. منهج البحث عن المنشأ الاجتماعي والتاريخي بوصفه «سر» المدارس والمذاهب الفنية والجمالية. ومن الجدير ذكره هنا، هو تأثر آخر التقطه مؤسسا الماركسية من مؤلف «فلسفة الفن والجمال»، ألا وهو الميل العريق إلى الكلاسيكية. فبحسب المعاصرين، كان كل من آسخيلوس وسوفوكليس (من الكلاسيكية القديمة) بالإضافة إلى شكسبير وغوته وسكوت وبلزاك، من المفضَّلين وعلى رأس قائمة الكتاب المقروئين بشغف من قبل ماركس وأنجلس. علماً بأن التناول الكلاسيكي عند ماركس للفنون الكلاسيكية، سرعان ما أُخضع لمنهجه التحليلي الذي طوّره عن هيغل. ففي مخطوطات 1844، يتناول ماركس الملحمة الإغريقية قائلاً: «ليس من الصعب أن ندرك أن للفن والملحمة عند الإغريق صلات مع عدد من الأشكال الاجتماعية والتاريخية، لكن الصعوبة تكمن في تفسير كونهما ما زالا يقدمان متعة فنية، ويعتبران نماذج فنية لا تُضاهى إلى يومنا هذا». وبالفعل، هنا يؤسس ماركس أولى مقولات أو أطروحات الجمالية الماركسية والمذهب الواقعي في الفن. إنه فعلياً التناول الجدلي لمسألتي المطلق والنسبي في الموضوع الفني، وكيف أن الفن الأصيل يلتقط روح الواقع و«روح العصر» ويعكسها فنياً وجمالياً ويعبر عنها بشكل جلي. إلا أنه في عمله هذا، يعبّر عن جوهر إنساني خالد عبر كل العصور، وهو العبور الجدلي (أو التجاوز transcend) من الخاص إلى العام ومن الجزئي إلى الكلي، من دون أن نغفل أن هذا الخاص هو الممر الإجباري والضروري نحو الكلي الإنساني. إذ من دون أن يعبّر الفن عن أعمق حاجات وتوجّهات عصره ومجتمعه، ليس هنالك أي إمكانية لتحوله إلى فن إنساني خالد ورفيع. وانطلاقاً من هنا، يذهب ماركس إلى دور البطل في الفن الواقعي، فهو من جهة ابن عصره، «فبالتأكيد لا يمكننا تصوّر أخيل مع أسلحة نارية»، لكنه في الوقت نفسه ــ بوصفه بطلاً واقعياً ــ سابق لعصره، وهو في سعي إلى تنشيط حركة التاريخ بدلاً من أن يبطئها. إنه المعبر عن أمنيات وحاجات عصره الاجتماعية والروحية منتقلاً من حالة التبعية إلى الاستقلال.

تجد جذور الجمالية
الماركسية أسسها الأولى لدى الفيلسوف الألماني هيغل

في الحقيقة يمكن رصد منهج ناظم في ديالكتيك تعامل الجمالية الماركسية مع المسائل الفنية، فمسألة الشكل والمضمون تجد حلاً لها في تحديد سمة عامة لكل ما يسمى فناً واقعياً أو رفيعاً. إنها وحدة الشكل والمضمون بأسلوبية حية وعضوية تحقق روح العصر واحتياجاته. المضمون الفني الرفيع يجب أن يجد شكلاً ملائماً يعبّر عنه، والشكل معبِّر عن المضمون وكاشف له، لذلك وحدتهما حتمية. والجمالية الماركسية، رسمت لها خطاً مستقلاً عن مقولات وتوجّهات «انعدام الموضوع» والفن للفن و«أولوية الشكل»، وهو مستقل وبالمقدار نفسه عن توجهات الفن الوعظي والأخلاقي الذي ينحدر إلى مستوى البروباغندا. وهنا نجد أنفسنا وجهاً لوجه، أمام مسألة أخرى من أهم مسائل علم الجمال: هل يقدم الفن معرفة أم متعة؟ كلاهما... يجيب الجدل الماركسي. إن الفن يقدم معرفة خاصة بأسلوب خاص، وما هذا الأسلوب الخاص إلا الأسلوب الجمالي الفني الذي يرتقي بالروح قبل أن يقدم معرفة للعقل.
لعل أكثر الاختلاطات الجمالية الفلسفية شيوعاً اليوم، هو الخلط بين الواقعية و«المذهب الطبيعي naturalism» في الفن. فالواقعية التي حددها ماركس وبريتولد بريخت وجورج لوكاتش ليست محض نقل حرفي للواقع، بل إنها عملية «التقاط معرفي» للواقع المعاصر بأسلوب فني جمالي يتضمن غوصاً في العمق وتحليلاً واستنتاجات. إن هذا النوع من الالتقاط المعرفي الفني للواقع يتضمن بالضرورة التجريد والتعامل مع المفاهيم، وليس فقط التعامل مع الحدسيات الحسّية المباشرة. وعبر عملية التقاط «روح الواقع» هذه وبلوغ جوهره، يصل الفن إلى مستويات إنسانية غير مسبوقة. إن الفرق بين المذهب الجمالي الطبيعي والمذهب الواقعي نراه في الفلسفة بين كارل ماركس وبيار برودون، وفي الأدب بين بلزاك وزولا، وفي الرسم بين غوستاف كوربيه وأنوريه دوميه.
لقد روي عن كوربيه مرة، أنه عندما عاين لوحة «المسيح مع الملائكة» للرسام الفرنسي ادوارد مانييه (Edouard Manet)، خلص إلى نتيجة أنه لا يستطيع تقويمها، فهو لم يرَ ملائكة من قبل ولا يعرف شكل خلفياتهم! إنه هذا النوع من «الواقعية» التي وصفها دوستويفسكي على أنها أخطر أنواع التوجهات الأدبية لأنها فعلياً عمياء ولا ترى أبعد من الأنف، فيجهد الفنان لرسم الواقع، وإذ به في النهاية لا يرسم إلا نفسه ومقدار جهله بهذا الواقع الذي يحيط به وهو فعلياً لا يراه.
* كاتب سوري