نحن نعيش في عصر سيطر المال على جميع مفاصله أنتج قيمه، فالجميع يريد المال من دون العمل، وعلى المستوى السياسي الجميع يريد السلطة ولا احد يريد التفكير وطرح المشاريع الحقيقية التي تنهض بالمجتمع. في عصر موت الفكر سيطرت الغرائز وعبادة الأنا وجرى تقديس القائد والبطل بدل الفكر والمشروع، في غياب الفكر تصبح الأنا هي المعيار وتطغى الصورة على المضمون ما يؤدي في نهاية الامر الى غياب الوعي وانتشار الجهل وسيطرة الطبقة الحاكمة وهكذا تنتهي الثورات بتجديد النظام بدل تغييره، وما جرى في مصر وباقي الدول العربية خير مثال على النتيجة الطبيعية للقوانين العلمية التي تحكم حركات الشعوب.
وقد اصبحت صناعة الجهل ركيزة من ركائز الحكم، وذلك عبر مؤسسات اعلامية وكيانات سياسية لا دور لها غير حرف الافراد عن مصالحهم الحقيقية واغراقهم في الجهل الذي يؤدي بهم الى الدفاع عن مصالح الطبقة الحاكمة المناقضة لمصالحهم، عبر خلق صراعات وقضايا لا تساهم في زيادة وعي الجماهير بمصالحها بل على العكس تحاول تدجينها وردها الى كائن متلق لا دور له في انتاج الفكر والحلول لمشاكله بل على العكس هو كائن خاضع يتم سوقه بحسب مصالح الطبقة الحاكمة. ولكن نحن نعيش في الوقت ذاته نعيش عصر الثورة التكنولوجية التي احالت الانسان الى كائن فعّال في محيطه. هذه الثورة ستغيّر العلاقات القائمة بين المنتج والمستهلك الى شخص يقوم بالانتاج والاستهلاك في الوقت نفسه مع ما يشكل هذا من تهديد لرأس المال القائم على الربح، ومن المتوقع خلال عشر سنوات ان يؤدي انتشار الالات الطابعة الثلاثية الابعاد الى ثورة اقتصادية اجتماعية شبيهة بالثورة التي ادت اليها ثورة المعلومات.
لذا امام الواقع المزري وافاق المستقبل المشرق وجب البحث عن آليات العمل السياسي المتوافقة مع تطورات العصر، فالعمل السياسي اليوم يقوم على طريقة الكاوبوي، اي تجميع اكبر قدر ممكن من البشر في القطيع ما يسمح للرئيس او للحزب بالتفاوض على طاولة المصالح الدولية بهدف تحصيل اكبر قدر ممكن من المكاسب. وقد قال احد السياسيين اللبنانيين يوماً إبان الوجود السوري: "سأدعو الى مظاهرة في وسط البلد. فإذا جمعت عشرين ألفا فاوضني النظام اللبناني، واذا جمعت ثلاثين فاوضني السوري اما اذا جمعت خمسين الفا فسيفاوضني الاميركي".

المطالبة بإسقاط
الطبقة السياسية نوع من الرومانسية المثالية

هكذا تعمل الاحزاب بحسب رصيدها البشري، اما ما تبقى من الجمهور خارج اطار هذه الاحزاب فقد سعت جمعيات المجتمع المدني الى احتوائه دون ان تقدم لغة علمية تهدف الى توعية الجمهور بمصالحه وزيادة ادراكه للواقع، فلا نشرات دورية تكشف عمليات الفساد الكثيرة وتراقبها على صعيد الدولة والمؤسسات الاعلامية والصحية غيرها بل الاكتفاء بلغة "كلهم فاسدون"، وهي لغة عاطفية لا علم ومعلومات فيها. ولا نشرات بيئية دورية تكشف الكوارث البيئية الخطيرة التي تصيب مجتمعنا منذ عقود، حتى كما لو أن الدولة والجمعيات البيئية فوجئت بمشكلة النفايات من دون أن يمتلك أي منها حلاً او تصوراً للحل.
الحراك اليوم وقوده الغضب والرفض والاستياء وغيرها من المشاعر المتفجرة، وقد اثبتت تجربة العمل السياسي ما قبل الحراك العربي ان النخب غير قادرة على التغيير وحدها، فمصيرها إما النفي أو القتل أو السجن، كما اثبتت تجربة ما بعد الحراك العربي ان الجماهير وحدها غير قادرة على التغيير، ففي كلتا الحالتين استمر النظام، لذا لا مفر من اتحاد النخب بالجماهير لقيادة حركة تغييرية حقيقية تؤدي الى الهدف المنشود، كما حصل في البلدان التي نجحت ثوراتها. والنظام يعي هذه المعادلة، وهو يسعى لاستدراج الحراك الى ملعبه بهدف انهاكه وافشاله. والهدف من الدعوة الى الحوار بين القيادات السياسية هو فرض اجندة السياسيين على الحراك بدل العكس. في المطالبة بإسقاط الطبقة السياسية الحاكمة نوع من الرومانسية المثالية، فهذه الطبقة مجتمعة تمثّل ما لا يقل عن 65% من الشعب اللبناني، وهي تعكس قيمه ومبادئه وحياته اليومية. والدعوة لاسقاط هذه الطبقة تعني اسقاط اغلبية المجتمع اي حرب اهلية، وهذا ليس للتخويف من الحراك بل لتصويبه ورده الى لغة علمية تنطلق من الواقع لتغييره، فبدل الاكتفاء بالدعوة للتظاهر امام مجلس النواب ضد الحوار وجب الدعوة الى مؤتمر بيئي يهدف الى ايجاد افضل حل لمشكلة النفايات، التي من المعروف انها لا تحتاج لمطامر فهناك بدائل افضل واوفر ومنتجة، وفرض هذا الحل على الطبقة السياسية، ثم الانطلاق بهذه الآلية الشعبية الى باقي الملفات التي تخنق المواطن وتحيل حياته جحيماً. التغيير الحقيقي المنشود يتم عبر العمل اولاً على الملف القضائي لأن محاربة الفساد لا تتم عبر استبدال الاشخاص الفاسدين بأشخاص نراهن على استقامتهم، فالضمير لا مكان له في انشاء الدول، فهي تقوم على قوانين تحكم حركة المجتمع. ويبقى السؤال الأساسي في لبنان هو لماذا لا تتم محاسبة الفاسدين؟ ولماذا لا يستطيع القضاء ان يحقق العدالة والحماية التي يحتاجها المواطنون؟ في البدء يجب البحث في هيكلية القضاء وقدرة السلطة السياسية على اخضاعه لخدمة مصالحها. فيمنح القضاء استقلاليته الكاملة وتحصينه من الطبقة الحاكمة واعادة هذه السلطة للشعب عبر قوانين جديدة تضمن هذا التحول وتعطيه القدرة على وضع حد للفساد، مع اعطاء المحامين المساحة الكافية التي تسمح لهم بالعمل داخل هذا النظام لإصلاحه، كي لا نصل الى ديكتاتورية القضاء كما حصل في بعض الدول الاوروبية. وثانياً، العمل على الملف الأمني ففي حين قامت الطبقة السياسة باخضاع السلطة الامنية لها ووضعها في خدمة مصالحها والحفاظ عليها، ابتعدت هذه السلطة عن دورها الطبيعي القائم على تأمين السلام الاجتماعي والحفاظ عليه. حالياً يعتمد المجتمع على الضمير وعلى الاعراف والعلاقات العائلية لضبط حركته وتأمين امنه. الغاية من الشرطة والدرك والاجهزة الامنية حماية المواطن والفرد لا حماية النظام، ووجب اعادة هيكلة هذه السلطة واعادة نشرها بالشكل الذي يؤمن لها هذه الوظيفة الطبيعية، وانشاء آلية للمراقبة والمحاسبة تسمح للمواطن بمحاسبة هذه الاجهزة عبر القضاء في حال تلكأت عن تأدية وظيفتها، وتحسين الشروط الوظيفية لهذه الاجهزة انطلاقاً من هذا الدور ووصولاً اليه. وأيضاً يجب العمل على الملف المالي حيث تقوم السلطة المصرفية بامتصاص الدخل القومي اللبناني حالياً وتخزينه كأرباح، ومن الصعب الخروج من الدين العام حالياً، وقد حاولت حركة "سيريزا" في اليونان الخروج وفشلت، لكن على الاقل نستطيع تحسين شروط العلاقة بين الشعب وسلطة المصارف. فحالياً يحقق القطاع المصرفي اعلى ارباح في لبنان ويدفع اقل ضرائب، كما ان الشروط التي تفرضها المصارف على المواطنين في معاملاتها هي شروط تصب في المطلق في مصلحة المصارف يجب البدء بخطوات تسمح باستعادة المواطنين بعض الحقوق من علاقتهم بالقطاع المصرفي عبر قوانين تضبط هذا القطاع وتسمح بإعادة إخضاعه للمواطن وللطبقة المسحوقة. واخيراً يجب العمل على الملف السياسي، فالتطرف بالمواقف السياسية خيانة وطنية، والازمة لا تكمن في شكل النظام لأن نظاماً طائفياً عادلاً افضل من نظام علماني جائر... والعكس صحيح. الأزمة تكمن في آلية عمل هذا النظام، عبر بعض النقاط التي أثرناها سابقاً والتي من الممكن اضافة نقاط عدة اليها، ومحاولة اثارة الخطاب الغرائزي القائم على العواطف والرومانسية هو منبع للجهل، وسيؤدي الى اعادة انتاج النظام كما حصل في مصر. ومحاولة شخصنة الصراع وربطه بأشخاص سيئين وابطال منقذين هو خيانة للحراك، فالاصلاح لا يتم عبر الاشخاص بل عبر المشاريع. ليس المهم حالياً شكل النظام بل آلية عمله، والمطلوب تغيير آلية هذا العمل بشكل متلائم مع مصالح الشعب ما سيؤدي الى تغيير الاشخاص الذين لا ينسجمون مع هذه الالية.
الصراع طويل ولا يستطيع شخص انجازه، المطلوب من الناس ان تتجمع بحسب مهنها وقدراتها بهدف تطوير هذا النظام، فيعمل المحامون على تطوير النظام القضائي عبر مشاريع يطرحونها على الرأي العام ويسعون لتنفيذها، والاقتصاديون على تطوير القطاع المالي، والاطباء على تحسين القطاع الطبي... الخ. المطلوب عمل يومي فكري يخلق التغيير ويزرعه ليحصده المستقبل.
*كاتب لبناني