strong>معتصم حمادة*ورد هذا الاسم في زحمة الأخبار الآتية إلينا من الضفة الفلسطينية. ويفيد أحد هذه الأخبار أن قوات الاحتلال الإسرائيلي عادت لتحتل موقع «عش الغراب» عند أحد مداخل مدينة بيت ساحور. وكانت قوات الاحتلال قد أخلت هذا الموقع عام 2006، وتركت خلفها آثارها الكئيبة، وخاصةً أن الموقع كان يمسك بخناق مدينة بيت ساحور، ويمنع سكانها من الوصول إلى أراضيهم الخصبة، بذريعة أنها منطقة عسكرية. بعد مغادرة قوات الاحتلال الموقع، بادرت بلدية بيت ساحور النشيطة، وبدعم من الأهالي، إلى إزالة معظم آثار الموقع الإسرائيلي، ما عدا إحدى الدشم الكبرى، وبرج المراقبة الإسمنتي المنتصب عالياً. ولأن المنطقة تنتمي إلى المشاع العام في البلدة، فقد حوّلت البلدية، هذا المكان، إلى متنزّه شعبي، فافتتحت فيه مقهى ومطعماً، أحاطتهما بعدد من الحدائق، وشقّت طريقاً إلى المتنزّه بحيث يصل إليه السكان بالسيارات وسيراً على الأقدام. وعندما زرنا المكان، في جولتنا في الضفة الفلسطينية صيف العام الماضي، لاحظنا الموقع الاستراتيجي الذي يحتله. فهو، لا يكتفي بأنه موقع مؤثر في أحد مداخل بيت ساحور، بل إنّه أيضاً يطل، بطريقة مكشوفة، ومن دون أي عوائق، على جبل أبو غنيم، حيث بُنيت مستوطنة «هارحوما» العملاقة، التي تحولت إلى مدينة مجاورة لمدينة القدس، تحاصرها من أحد جوانبها، وتفصل بينها وبين بيت ساحور، وجارتها مدينة بيت لحم.
مدينة بيت ساحور معروفة بدورها المميز في النضال ضد الاحتلال، وكان لها في الانتفاضتين الأولى، والثانية، دور مشرّف في التصدي للاحتلال والمستوطنين، ويكفي أن نذكر أن بيت ساحور هي من قدّم نموذجاً شعبياً ناجحاً، في الانتفاضة الأولى، بإعلان العصيان المدني على قوات الاحتلال من خلال رفض دفع الضريبة لصندوق ما يسمّى الإدارة المدنية الإسرائيلية. وعقاباً لها على ذلك، فرضت قوات الاحتلال على بيت ساحور حصاراً قاسياً دام أكثر من شهر، مُنع خلاله الأهالي من الخروج والدخول، كما مُنع عن المدينة الغذاء والدواء، والماء، والكهرباء، وكل ما يمتّ إلى الحياة بصلة. ولو أمكن قوات الاحتلال منع الهواء عن بيت ساحور لما ترددت.
صمود بيت ساحور مثّل صرخة مدوّية في العالم، وخاصةً في العالم المسيحي، وتسلّلت من بيت ساحور صور الصامدين المعتصمين في الكنائس، يرفعون شارات النصر، مؤكدين إصرارهم على تحدي الاحتلال مهما كان الثمن. وهكذا انقلب السحر على الساحر، وبدلاً من أن يتحول حصار قوات الاحتلال لبيت ساحور إلى عقوبة «تردع» الأهالي «وتؤدّبهم» و«تعود بهم إلى جادّة الصواب»، تحول الحصار إلى مادة إعلامية في خدمة الانتفاضة وخدمة القضية الفلسطينية وعدالتها. واضطرت قوات الاحتلال، مرغمة، بعد ذلك، إلى فك الحصار عن بيت ساحور، التي واصلت دورها في الحياة السياسية الفلسطينية باعتبارها معقلاً من معاقل منظمة التحرير الفلسطينية، فيها لقوى اليسار الفلسطيني، وخصوصاً للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، نفوذ واضح وملموس، يعترف لها به القاصي والداني.
عودة قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى «عش الغراب»، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 2006، لم تلقيا اهتمام الصحافة الفلسطينية، وفي السياق، الصحافة العربية والدولية، وبدت هذه العودة كأنها مجرد إجراء عسكري محدود، لا أبعاد سياسية خطيرة له.
الإعلام أبدى اهتماماً بقرارات حكومة العدو بضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح، وسور القدس وغيرها من المعالم الفلسطينية إلى لائحة «الآثار اليهودية» في الضفة الفلسطينية. وهو اهتمام مطلوب وضروري، ومطلوب أن يتواصل محرّضاً لمصلحة التصدي لإجراءات الاحتلال، وللاحتلال نفسه. لكن هذا لا يبرّر للإعلام أن يتجاهل قضية «عش الغراب»، فالمسألة لا تتعلق بموقع عسكري أزيل، ثم أعيد، ولا تتعلق بمتنزّه شيّده سكان بيت ساحور وجاء الاحتلال ليهدم مبانيه ويخرّب معالمه. بل إن القضية أبعد من ذلك، ويمكن أن تُقرأ فيها مجموعة من العبر والتقديرات والمخاطر.
• العبرة الأولى تقول إن ما يسمّى المناطق (أ) و(ب) و(ج) ما هو إلّا خرافة إسرائيلية وكذبة انطلت على المفاوض الفلسطيني. فتحت شعار «الأمن الإسرائيلي» تزول الحدود والخطوط الفاصلة بين هذه المناطق، وتصبح كلها في قبضة الاحتلال متى رأت قيادته «ضرورة» إلى هذا. «عش الغراب» تأكيد على ذلك. والتوغل في رام الله، ونابلس، وبيت لحم، وغيرها من مدن الضفة، دليل آخر لا يحتاج إلى تأييد.
• إنّ العودة إلى «عش الغراب» ستكون لها تداعياتها على أوضاع بيت ساحور، إذ سيضيّق على سكانها، وخاصةً أنها مدينة مسيحية تعيش حالة من الركود الاقتصادي، كثير من أبنائها يبحثون عن الحل لأزمتهم الاقتصادية في الهجرة إلى الولايات المتحدة وغيرها، وفي ظل تسهيلات مشبوهة من بلاد اللجوء هذه. وهو ما يعيدنا إلى فتح ملف هجرة المسيحيين الفلسطينيين من فلسطين داخل 48 والضفة، والقدس، وغزة، وآثار ذلك على بنية المجتمع الفلسطيني، وعلى قضية فلسطين، بالأبعاد المختلفة. الأمر الذي يفترض أن تقف السلطة الفلسطينية، وأن تقف اللجنة التنفيذية أمام هذه القضية، وأن تبحث كيفية دعم المدن والقرى الفلسطينية الواقعة تحت الضغط اليومي للاحتلال، وتعزيز صمودها، وتوفير مقوّمات البقاء على أرض الوطن، وطيّ صفحة التفكير في الهجرة، مذكّرين، في هذا السياق، بأنه في الوقت الذي يهاجر فيه آلاف الفلسطينيين من داخل الوطن نحو الخارج، يغزو المهاجرون اليهود الجدد أرض فلسطين، مستوطنين هنا وهناك، في أنحاء الضفة الفلسطينية والقدس الشرقية ومحيطها.

صمود بيت ساحور مثّل صرخة مدوية في العالم، وخاصةً في العالم المسيحي
• إنّ العودة إلى «عش الغراب» ليست هي الخطوة المقصودة لذاتها بل هي مقدمة لمشروع أكثر خطورة، هو مصادرة الأرض الممتدة من الموقع، مروراً بالوادي الأخضر التابع لبيت ساحور، وصولاً، إلى جبل أبو غنيم صعوداً، وإقامة مستوطنة إسرائيلية يهودية جديدة، تمثّل امتداد لما يسمّى «القدس الكبرى» وصولاً إلى بيت ساحور، وبحيث تتحول، هذه المدينة الصغيرة الوادعة إلى ضاحية من ضواحي «القدس الكبرى» من دون أن نستبعد، ولو لحظة، أن يكون مصيرها، مستقبلاً، كمصير الأحياء القديمة للخليل، تجتاحها غربان المستوطنين بعد أن يكون «عش الغراب» قد أطلق غربانه ليبتلعوا الأرض الفلسطينية.
إذن احتلال «عش الغراب» مقدمة لمشروع استيطاني جديد، في إطار مواصلة تهويد القدس، وفي إطار مد اليد نحو بيت ساحور، المهددة هي الأخرى لاحقاً بشكل من أشكال التهويد. وهذا يعني أن لدى العدو الإسرائيلي مخططاً استيطانياً متكاملاً، (وليس هذا باكتشاف جديد) وأن التصدي لهذا المخطط يجري بالقطعة لا ضمن خطة استراتيجية فلسطينية متكاملة، تقوم على مجموعة من العناصر التي تكفل نجاحها (وليس هذا أيضاً باكتشاف جديد ـــــ للأسف).
وبالتالي يبقى مطلوباً أن نسأل عن المخطط الفلسطيني للتصدي للاستيطان، ليس من خلال وقف المفاوضات فقط، ولا من خلال البحث عن آليات «التفافية» للعودة إلى المفاوضات، بل من خلال تصدٍّ ميداني للاستيطان، يقنع العدو الإسرائيلي بأن للاستيطان ثمناً غالياً عليه أن يدفعه، كما يقنعه، في المقابل، بأنّ من الأفضل تجنّب دفع هذا الثمن الباهظ، من خلال إعادة النظر في المشاريع الاستيطانية.
من هو الأقدر على فعل هذا الشيء سوى مقاومة شعبية تمتد من شرق الضفة حتى غربها، ومن شمالها حتى جنوبها؟ مقاومة تشرّع لنفسها كل أساليب وأدوات الدفاع عن حقوقها المشروعة.
* كاتب فلسطيني