وائل عبد الفتاحالدولة وصلت إلى بروفة الفوضى. هذا ما تقوله الأحداث في مصر. الدولة تجرب نفسها في لحظة التفكك، المحاكم معطلة بسبب إضراب المحامين، والحرائق تلتهم الأسواق كما التهمت البنايات، وسط عجز أجهزة الإطفاء، وانقطاعات في الكهرباء والمياه نقلت أماكن وسط العاصمة إلى عصور ما قبل الحداثة، وأخيراً عصابات المطاريد قطعت الطريق الدولي، وأصوات الصفعات تدوي في معارك «أهلية» عن الكرامة الشخصية، أبطالها من أجيال وصلت إلى مواقعها مع سيادة الأخلاق الجديدة على كل شيء في مصر. أخلاق فوق القانون والقواعد المهنية وأعراف المجتمعات الحديثة. أخلاق «حقي بدراعي» وكل «صاحب سلطة فرعون»، وأنا «مميز ما دمت قادراً على فرض التميّز».
«حرب الصفعة» تجسد غياب القانون في مؤسسات القانون، كما أن الدولة الفاشلة في استيعاب سكان سيناء، تتهمهم بالخيانة وتهاجمهم بأسلحة ثقيلة. الفرد هنا من دون دولة، إما أن يتحصن بسلطة، أو يتحول من فرد عادي إلى بلطجي أو رئيس عصابة مطاريد السلطة، كما فعل «سالم لافي» حين هدد بضرب المنشآت الحيوية في سيناء، واعتدى على أحد رموز الدولة: الطريق الدولي.
سالم ينتقم، تحول من سنيد الشرطة في فرض وصايتها على بدو سيناء، إلى عدو لأنه رفض التعذيب، وفي رحلة التحول من حليف إلى عدو، لم يكن أمام الدولة إلا أن تدافع عن هيبتها وتصنع فوضاها الكبيرة التي تقف على رأسها. وكما أرادت الدولة في الستينيات أن ترث «الرأسمالية»، فإنها ترث نفسها الآن في صناعة الفوضى، وبعد عصر «رأسمالية الدولة» نصل إلى «فوض الدولة»، دولة تصنع فوضاها، وتديرها لا لشيء إلا لتستمر، الفوضى لا الدولة.
الفوضى جعلت مفتية المصريات (الدكتورة سعاد صالح) توقع استمارة عضوية في حزب الوفد (الليبرالي). بعد سنوات في خدمة الحزب الحاكم، أعيرت إلى حزب من أحزاب المعارضة المختارة، وهناك كشفت عوراتها، فالحزب اختيار سياسي، لكنها لم تخجل وهي تعلن: لا أقبل برئيس مسيحي لمصر.
الحزب الذي قام على «يحيا الهلال مع الصليب»، استعار من الحزب الحاكم أعضاءً ضد أفكاره. فوضى من نوع تديره الدولة بأطرها القديمة العاجزة، لتجعل منه «نظاماً» من الصعب الفكاك منه.
تفسد وتحاكم نفسها وتصدر أحكاماً بالبراءة. دورة سلطة من نوع يحتاج عمراً على مقاعد الحكم، ليصبح «عقداً اجتماعياً» يورط فيه المجتمع في الفساد، ويجعله منتجاً، ليصبح من العسير محاسبة السلطة وحدها، هكذا تحوّلت الشمولية الجبارة في أول عهد التحرر من الاستعمار إلى شمولية رخوة تدير الفوضى بدلاً من إدارتها الخطة الخمسية والمصانع وجبهات الحرب.
من الجبروت إلى الرخاوة، لم يستقر ولم يقوَ غير مؤسسة التعذيب، العلامة البارزة في مؤسسات إلغاء الفرد، والاعتداء على حقوقه باعتبار المجتمع نسخاً من موديلات متشابهة، إلا «قلة منحرفة» تشذ عن المجموع الذي يصبح هو المجتمع في عرف دولة الشمولية الرخوة كما كانت في عهدها القاسي.
هكذا فإنه، في لحظة تحول سالم لافي إلى روبن هود سيناوي، يصبح وزير متهم بالفساد، مثل محمد إبراهيم سليمان، وزيراً ناجحاً أدخل إلى خزانة الدولة ١٣ مليار جنيه، بينما تلغي محكمة القضاء الإداري قراراته ببيع الأرض لهشام طلعت مصطفى، الملياردير المتهم بالتحريض على قتل المغنية اللبنانية سوزان تميم. الدائرة عبثية إلى درجة لا يفهم سرها إلا الجالس على قمتها، وهذا يجعل المتحدثين عن ضرورة الرئيس حسني مبارك لمصر، ليسوا منافقين، بل ينطقون من واقعية مفرطة. واقعية تراه أفضل بكثير من قطّاع الطرق، ولصوص المال العام، والمبشرين بالدولة الدينية، إلى آخر الواقفين على أطلال الفوضى، يدربون شهيتهم على افتراس مجتمع باعوا له كل شيء، حتى الجنة. وليس غريباً أن تعلن فضائية دينية أنها «شاشة تدخلك الجنة». هكذا دخلت الجنة سوق البيزنس، وبالطريقة نفسها. وبعدما كان حكام الدولة الدينية (مسيحيين ومسلمين) يبيعون صكوك الجنة لمواطنين، فعلى طريقة بيع المباريات في المونديال، انتقل الحق من القطاع العام إلى الخاص، وعلى كل من يلعنون الواقع أن يجلسوا على أرائك مريحة انتظاراً لرحلة الخلاص من الفوضى.
الجنة مع الفوضى، معادلة نظام «الشمولية الرخوة» بمنطق اتركوا لنا السياسة واحلموا بالجنة، واتركوا لنا الدولة والعبوا في حدائقها الخلفية. البقاء للأكثر جبروتاً وقدرة على امتلاك سحر تحويل كل شيء صلب إلى هلام لا نهائي.