strong>الأب يواكيم مبارك*تنبيه تمهيدي في نقطتين (١):
1. لقد أدرجت تأملاتي النهائية في الاقتراحات التي أقدمها في ختام هذه الندوة، لذا أريد الإشارة إلى أن الاقتراحات والتأملات التي تكتسيها لا تُلزم غيري، وبالتالي فهي لا تتسم بأي طابع رسمي أو أكاديمي. وعلى منوال ما قُدّم خلال الأيام التي عقدت فيها هذه الندوة، إن اقتراحاتي مفتوحة للنقاش الحر.
2. يرجى الانتباه إلى أن تأملاتي قد أُعدّت للمدى الطويل وإن كنت قد اقترحت بعضها للمدى القصير. يا أيها المسيحيون في الشرق، إن أغلبكم يشعر أن المنافذ قد سُدّت عليكم كي لا أقول إن الخناق قد ضاق. في ما يخصني، أنا لا أشاطركم هذا الشعور لأن رؤيتي للوضع تختلف عما يغذي لدى الكثير من المسيحيين من مشاعر خوفٍ وقلق. لكن رؤيتي هذه لا تمنعني من المؤازرة والتعاضد مع من يشعر من أبناء طائفتي بالقلق وغياب الطمأنينة، حتى وإن كان دافعه التصرف المتهور والمجرم لمسيحيين آخرين. لكن ما من حافز يسعفني ويقدم يد المساعدة لأبناء طائفتي سوى حافز المدى الطويل. لقد تطلّب وضعنا دوماً أن نلوذ بالصبر وطول الأناة، لذا لن أقترح ما يخرجنا من طريقنا المضطرب التي أصبحت خبزنا المعتاد منذ عهد قديم. فما أصبو إليه، في إطار إخلاصي التام لأبناء طائفتي ولتاريخنا المجيد، هو أن أخفف مرارة دموعهم بمذاق عطر الجنة التي يهبها الرب لنا في لحظات جد نادرة عندما يقاسمنا، إلى جانب خبز آلامه، كأس آلام الرب ونشوتها.
بعد هذا التنبيه، سأكرس تفكيري واقتراحاتي لمواضيع ثلاثة بالإجابة عن السؤال الآتي: أيها المسيحيون في العالم العربي، بمَ يوحي لنا الوضع الحالي في الآلام التي تضنينا منذ فترة طويلة؟
أجيب بمساع ثلاثة:

1. العودة إلى الكنيسة الإنطاكية

2. إعادة بناء لبنان
3. إحياء النهضة العربية
1. العودة إلى الكنيسة الإنطاكية
ماذا تعني العودة إلى الكنيسة الإنطاكية؟
1.1 هي أولاً المطالبة ضمن الكنيسة العالمية برسالتنا كمسيحيين أرومة أقوام مختلفة تحررت من اليهودية وشريعتها. وهي أيضاً، في نطاق نبذ الختان وحرفية الكتاب المقدس، المطالبة بالمعنى الروحي لهذه الرسالة وبكلمة الحرية التي نفختها الروح القدس، من خلال يسوع المسيح، في كل شعب بلسانه الخاص به، وعبرت عنه حسب ثقافته الخاصة. مما يعني أن نجعل ما أسماه آباؤنا التنظيم الخاص بالأسرار المقدسة بديلاً من اللاهوت المعروف باسم «تاريخ الخلاص» والمنغلق على «التقاليد اليهودية المسيحية» كضحية على سرير بروكست (٢). أي أن ننطلق من كلمة الله، من «النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم (٣)»، والذي أمر الرُسل بعدم رصف الشعوب بجموعها على وتيرة شعب واحد، حتى وإن تحقق ذلك في نطاق إجماع عالمي، وإنما أن تؤلف سيمفونية تُؤجج فيها الروح القدس إيقاع كل صوت بشري وتُناغم صوت البشرية ابتهاجاً وغبطة.
1.2 إن العودة إلى الكنيسة الإنطاكية تتطلب استعادة وضعنا المشترك الذي شهدناه في الألفية الأولى حيث كنا نشكل في الصلاة كنيسة واحدة على الرغم من نزاعاتنا. بمعنى آخر أن نرفض، دون خشونة أو عنف لكن ببصيرة نافذة، الاحتلال الذي خضعنا له في الألفية الثانية من جانب كنائس الإمبراطوريات الكبرى إثر الحروب الصليبية البيزنطية ثم اللاتينية. لكن دون أن ننكر الصِلات الروحية التي أثرت بنا والتي يجب تفريقها عن ولاءات غير طبيعية، نُعلن عدم مشاركتنا في الصراعات القروسطية التي أثارت المسيحيين بعضهم ضد بعض لغاية الفترة المعاصرة. أي أن نناديَ بمسكونية إنطاكية ترفض أن تضلّ الطريق في متاهات الكنائس اللاتينية والبيزنطية والبروتستانتية، بل تقوم، انطلاقاً من وضعها المهين، لتتحدى بقوة كبريات المساومات الكنسية المسكونية عبر وحدة إنطاكية معيشة فعلياً.
1.3 لكن هذا التحدي بوحدة إنطاكية معيشة فعلياً لا يجد مصداقيته إلا في العودة لرسالتنا الأولى القائمة على الانزواء النُسكي والطقسي من خلال حركة التخلي عن الذات التي نهجها يسوع المتألم. أو كما يقول البعض، في اصطفاف جماعي خلف قديس ناسك يُقتدى به أو في الانضمام لجماعة مقوماتها الزهد والمقاومة والتأمل. وهذا هو حقيقةً الأهم في عودتنا إلى الكنيسة الإنطاكية، أي على غرار الإحياء الذي حصل في الإسكندرية بين الأنبا شنودة ومتى المسكين (٤). وخير مثال يؤتى به للموارنة هو مثال القديس شربل والقديسة رفقا.
1.4 لكن التحدي الإنطاكي بوحدة معيشة الذي نواجهه لا يمكن له أن يتم دون الاستجابة، في الحياة الزمنية، لما حبلت به لمدة طويلة جداً حركة انزوائنا التنسّكي الناتجة من إخلاء الذات، وأنجبته في مخاض عسير. ففي الوقت الذي كانت فيه كنيستنا على طول امتداد الألف الثاني مشتتة بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية، بانتظار مجيء البروتستانتية بمللها ونحلها، وجدنا أنفسنا، مع هذا، في وئام تام مع مصيرنا المشترك من خلال تعريبنا التدريجي الذي حصل بين مرحلة عصره الذهبي ونهضته. إن التحدي الإنطاكي بوحدة معيشة لن ينضم إلى حركة الكنيسة العالمية ما لم تتأثر كلياً بعشقنا للشرق، وتناصر ولاءنا الأصيل لقيمها الإنسانية التي تتوق إلى التحرر.
1.5 هكذا تتجلى رسالتنا الإنطاكية شبيهة كل الشبه برسالة مسيحيي أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وأفريقيا السوداء وآسيا. فبالتعاضد مع جميع إخواننا الذين يكابدون الاضطهاد من أجل إرساء العدالة، اضطهاد يعزز في قلوبهم حب تحرير شعوبهم، إن العودة إلى الكنيسة الإنطاكية تعني أن نتيح للكنيسة العالمية الظروف لكي تشاركنا في شغفنا بحرية الإنسان العربي.

2. إعادة بناء لبنان

ولتحرير الإنسان العربي، كان لا بد من إيجاد نموذج يُحتذى به ومختبر. فوقع الاختيار على لبنان.
2.1 إن إعادة بناء لبنان تعني قبل كل شيء أن نقرَّ خيارنا الذي لا رجعةَ فيه بالدولة الأمة والذي يتعارض مع مفهوم الإمبراطورية والكيانات المختلفة الألوان والشعارات الهادفة إلى هيمنة إمبريالية الطابع.
2.2 أن نقر في الوقت نفسه معارضتنا الصلبة لكل نظام يدَّعي تجسيد القدسية، قديماً كان أم جديداً، يحكمه إمبراطور أو قيصر، خليفة أو سلطان، وسواء كان اسمه جمهورية إسلامية أو دولة يهودية أو معقلاً مسيحياً.
2.3 إن إعادة بناء لبنان هي التأكيد على إرادتنا في خلق فضاء تُصان فيه حرية وازدهار كل فرد أو جماعة بشرية تشعر خطأً أو صواباً أن سلامتها مهددة أو كرامتها منتهكة. إن إعادة بناء لبنان هي في الوقت نفسه ألا نسمح لأي كان، فرداً كان أو جماعة، بالتقوقع داخل خصوصيته. وهي أيضاً أن نحوّل خصوصياتنا إلى تراث مشترك ونجعل من فوارقنا مجرد ملاهٍ فولكلورية تُزهر حديقتنا الوطنية.
2.4 إن إعادة بناء لبنان هي تحرير القدرات اللبنانية في العيش المشترك المطمئن والسعيد من صراعات الشرق الأوسط وإرساء السلام الإسرائيلي الفلسطيني على أساس هذه القدرات المستردة. فإعادة البناء هذه تعني أن نعلن أنه من غير العدل أن نجعل من هذا البلد حلبة مسوّرة لصراعات الآخرين، وأنّ سلام لبنان هو الحجر الأساسي لسلام الشرق الأوسط.
2.5 إن إعادة بناء لبنان هي أن نراهن على أن مستقبل الشرق، بين النموذج الإسلامي والنموذج الصهيوني، ليس أكثر ضمانة على يد سوريا أو إسرائيل، وأن مستقبل الشرق مفتوح في لبنان على تضافر تحرري خلاق لجهود كل العرب الذين اختاروا بملء إرادتهم في المغرب والمشرق الحداثة والديموقراطية. إن مستقبل الشرق يرتبط أساساً بحملة شعار السلام والتقدم من لبنانيين وفلسطينيين وإسرائيليين. فهؤلاء جميعاً الذين اعتبرهم لبنانيين مختارين، إن ساد الاتفاق والوئام بينهم، هم خير الأكفاء لإنشاء نهضة جديدة.

3. إحياء النهضة العربية

3.1 إن إحياء النهضة العربية هو أولاً تعزيز، ما بين الخليج والمحيط، استمرارية لا حدود لها للغة والثفافة العربية تمتد من امرئ القيس إلى جبران خليل جبران، أي بمعنى آخر من «الجاهلية» إلى الحداثة العربية الإسلامية.
3.2 وبناءً على تعزيز هذه الاستمرارية الطويلة المدى، فإن إحياء النهضة العربية هو أن ننكر للإسلام أن يكون أصل العروبة أو أن يمارس عليها حق الهيمنة. ولكن لأن الإسلام ظهر باللغة العربية ووهبها أسمى عباراتها ونشرها لدى الشعوب غير العربية التي اعتنقت الإسلام، فإن إحياء النهضة العربية هو أن نسلّم بأن المسيحيين الذين كانوا طرفاً في هذا التحول قد دخلوا بكل ثبات في التيار الإسلامي للعروبة وأصبحت ثقافتهم، حسب أمنية كمال جنبلاط، مؤسلمة. فقدموا بهذا دليلاً فريداً عن حرية الكنيسة المسيحية وسط الأديان والثقافات الأخرى.
3.3 وبناءً على تحديد وتعزيز وحدة واستمرارية اللغة العربية وثقافتها، فإن إحياء النهضة لا يمكنه أن يتم في إطار المطالبة بمعايير الحداثة الأوروبية التي ينادي بها خير العناصر العربية والإسلامية، إضافة إلى المسيحيين، مطالبة تزداد عزماً وتصميماً في ضوء انبثاق مختلف أنواع الأصوليات الدينية المتشددة. إن الهدف المنشود هو أن نُخضع التراث العربي بمجمله للنقد الكامل، سواء في المجال الديني أو الفلسفي أو الأدبي، وذلك ليس لرد بعض منه بل «لإضفاء معان أكثر نقاءً على كلمات القبيلة (٥)».
3.4 إن إحياء النهضة العربية هو أن نقرّ في نطاق هذه المراجعة الجذرية أن ما من ثقافة عربية جديرة بهذا الاسم دون تقدير للمساهمات التي سبقت هذه الثقافة، وخاصة تلك التي جاءت عن طريق اليونانية والسريانية. وهو أن نؤكد أن ما من ثقافة عربية في أيامنا هذه دون تفاعل مع مجالات الحداثة الجيوثقافية التي تحتل فيها الفرنكفونية بالنسبة للعروبة مكاناً مميزاً.
3.5 وبما أن لبنان ملتقى التراث ومنبعه المتأثر بلهيب الحداثة، فإن إحياء النهضة العربية هو أن نمتنع عن القول إن للبنان وجهاً عربياً، بل لنقل إن العروبة تبقى منزوعة الوجه ما دام لبنان ليس وجه العروبة.

4. جملة اقتراحات

كما ترون، لقد وفيت بوعدي. إن تركت جانباً أحياناً عمق المدى التاريخي لاعتبارات الأوضاع الراهنة، فإني لم أقم بها إلا على شكل اقتراحات طوباوية الطابع لا بدّ للبعض أنه سيتكرَّم بالقول إنها مُبهمة بقدر ما هي سامية نبيلة.
ولكن مع هذا، إن ألح البعض عليّ بتنفيذ المساعي الثلاثة التي وضعتُ صيغها الأولية وأن أضع اليوطوبيا على محك التجربة اليومية، فإني أُذعن لهذا الطلب بكل رغبة وطيبة خاطر تاركاً على الهيئة المنظِّمة لهذا اللقاء مشاريع ثلاثة قيد الإعداد، إضافة إلى مشروع رابع لم ينتهِ كلياً أهديه خاصة إلى أصدقائي الفرنسيين الحاضرين بيننا.
4.1 في ما يتعلق بالعودة إلى الكنيسة الإنطاكية، لقد أسهمت في إطلاق المطالبة بإقامة مجمع إحياء تحديثي للكنيسة المارونية. إلا أني أرى حالياً ضرورة تنظيم مجمع إنطاكي يلبّي أمنية غبطة البطريرك اغناطيوس هزيم التي أعرب عنها منذ حوالى عقدين. لقد تشاورنا حديثاً، موارنة وأرثوذكسَ، بشأن هذا الموضوع، واجتمعنا سوياً مع سيادة المطران جورج خضر بضيافة السيد غسان التويني. خلال هذا الاجتماع، أُتيح لي أن أعرض فكرة عقد مجمع رعوي إنطاكي عند الدخول في عام 2000. وأقصد بالمجمع الرعوي مجمعاً لا يكون عقائدياً ولا كنسياً، بل يطرح تعليماً دينياً مشتركاً قائماً على أساس الاهتداء الروحي العميق، ويصوغ صلاة مشتركة ومصالح تُلزمنا العمل سوية على تحرير الإنسان في ديارنا وتأمين تقدمه.
4.2 أما في ما يتعلق بإعادة بناء لبنان، فمنكم من يعرف أني أوصي بعقد مؤتمر لبناني للسلام في باريس، مع العلم أنني سأكون أول من يبتهج لرؤية مؤتمر وطني ينعقد في لبنان. ولكن حتى لو حصل، لا أثق في أن ينعقد المؤتمر في ظروف توفر حرية واستقلالية جميع اللبنانيين الذين يريدون سوية بناء لبنان. وإني لا أزال أظن أن مؤتمراً لبنانياً للسلام، يتقدم مؤتمراً عن الشرق الأوسط ويمهّد له دون أن يرتبط به، لن يتمكن، في حال انعقاده في غير مدينة باريس، من بلورة إجماع وطني على نطاق واسع، ومن جعل هذا الإجماع يحظى بدعم دولي يحتاج إليه على المستوى الدبلوماسي والإعلامي.
4.3 أخيراً، في ما يتعلق بإحياء النهضة العربية، فإني أظن أن باريس هي مرة جديدة أنسب مكان لاستقطاب أعمال مؤسسة (Fondation) تُكرس إلى التنمية العربية للثقافة، وتأخذ في الاعتبار التراث الإنطاكي بكل أهميته بهدف إحيائه. لكن أياً كان مقر هذه المؤسسة، فإنه في باريس قد سبق أن اتخذ العرب والمسيحيون والمسلمون مبادرات عديدة في مجال الصحافة والنشر. فهي إذاً محور استقطاب مميز يجمع حوله كل من يريد إعادة النظر في النهضة العربية وإعطاءها وسائل تنعشها يوم تزول حُميّات التعصب. من ناحية أخرى، مع كل التقدير الذي أكنه لمؤسسات مثل مكتب الجامعة العربية ومعهد العالم العربي ومؤسسات أخرى على غرار اليونسكو أو وكالة التعاون، فإنه من البديهي أن المؤسسة التي أتطلع إليها لا بدّ من أن تكون مؤسسة مستقلة كل الاستقلال عن الدول، تكفل مستواها مكانة المراجع الدينية والأخلاقية التي قد تقدم على رعايتها، ونزاهة الأشخاص الذين قد يقبلون على تمويلها، ومنزلة النخبة المثقفة التي تسهر على وضعها قيد العمل والتنفيذ.

خاتمة

لقد سمع الأصدقاء الفرنسيون الحاضرون في هذه الندوة ندائي الذي وجهته لهم، سواء بخصوص إحياء النهضة العربية أو إعادة بناء لبنان، حيث إني أجعل من باريس محور هذين المشروعين. هل من داع أن أضيف أنه، عندما أقيم الصلة بين مشروع العودة إلى الكنيسة الإنطاكية وازدهار المسيحية الفرنسية، حسبي أن أستعيد في ذاكرتي هذين الإنطاكييْن المختاريْن اللذين أسسا جمعية الأدباء المؤمنين والناطقين بالفرنسية، وهما أوليفيه كليمان ورينيه حبشي؟ هل من داع أيضاً أن أذكّر بأن العروبة هي دون شك مصير الكنيسة الإنطاكية، وعلى رأسها الكنيسة المارونية والأرثوذكسية، سواء في المهجر أو في قواعدها البطريركية، وأن كنيستنا، بفضل وجود الشهود على النزيل الإلهي والكلمة والروح القدس، لها طابع فرنكوفوني في مسكونيته؟
لأجل كل هذه الاعتبارات، أعتقد أن اقتراحاتي هذه وغيرها من الاقتراحات، إنْ كان لا بد لها أن تنشأ في الشرق وتتحقق، فإنها في فرنسا قد تجلب المساعدات الحاسمة.
ولكن اسمحوا لي أن أربط أنواع تعاضدنا انطلاقاً من مقاربة أخيرة بين الرهانات التي تستجدي انتباهنا أو تتهددنا أحياناً.
لويس ماسينيون الذي كان يعتبر كغيره أن فرنسا هي «بنت الكنيسة البكر» لم يتوان عن الحديث عن «رسالة فرنسا الإسلامية». أرى أن هذه الرسالة تخضع اليوم لاختبار عسير وأنها تتعرض لعواقب قد تكون وخيمة كما قد تكون مدعاة إلى التفاؤل. لقد استقرت روح العداء العميقة بين السكان المسلمين واليهود في فرنسا، المنتمي كلاهما إلى أصل واحد، الأصل المغربي خاصة. هذا العداء هو في الحقيقة صراع إسرائيلي عربي يكمن في ما وراء البحر الأبيض المتوسط وفي قلب الأمة الفرنسية، صراع يعجز كلياً عن تفكيك نسيج هذه الأمة، لكن في مقدوره أن يشوّهها ويعيق، بالنسبة إلى الجيل الحالي، أن تكون، في وسط العالم المعاصر، الملتقى والينبوع لمجتمع جديد منبثق عن حركات الهجرة واختلاط الأعراق.

إن إعادة بناء لبنان هي في الوقت نفسه ألا نسمح لأي كان، فرداً أو جماعة، بالتقوقع داخل خصوصيته
فبين مشروع العودة إلى الكنيسة الإنطاكية وإحياء النهضة العربية، دافعت أمامكم عن سلام إسرائيلي عربي قائم على النموذج اللبناني للعيش المشترك الأنيس. إن هذا السلام يعنيكم خاصة، لأنه إن لم يتحقق في لبنان وإن لم تُنصف فلسطين، فلن يتأذى سلامكم الوطني بالرغم من الأعمال الإرهابية، إلا أن رسالتكم العالمية ستصبح عاجزة عن بلوغ غايتها.
لقد دافعت عن كنيستي وبلدي وثقافة مسقط رأسي. ثقوا بأني قمت بهذا لأني أعلق أيضاً الأمل على هذه القيم الإنسانية الجديدة التي جاءت بها الأمة الفرنسية بعد قرنين من الثورة وألف سنة من الامتحان والاختبار، والتي أتاحت الفرصة لشعب أن يزرعها في جنان فرنسا لتتفتح بزهو، فتتهلل نفس كل من يتعرف على هويته الخاصة من خلال الصورة التي كوّنها في مخيلته عن هذه القيم الإنسانية الجديدة.
إني أناضل من أجل أن يصبح الوجه الإنسانوي اللبناني، في إطار طوباوي للعروبة، مقترناً به كوجه طليعي. وها هو النضال عينه الذي يصبو، في إطار مثالي لقيم إنسانوية جامعة، إلى رؤية وجه فرنسا يبرز في الضباب الشمالي ويتخلى عن خضوعه الأطلسي وتعترف به شعوب البلاد المشمسة على أنه صورة حريتها وكفيل نجاحها.
* هذا النص هو كلمة الأب يواكيم مبارك التي ألقاها في مؤتمر «مسيحيو العالم العربي وأصدقاؤهم» الذي انعقد في البيت الدولي للاستقبال في باريس (FIAP) في شهر أيلول/ سبتمبر 1987. والترجمة للدكتورة سلام دياب، أستاذة في اللغة العربية والمسؤولة العلمية عن الصفحة العربية لموقع الإنترنت التابع للمدرسة العليا لتخريج الأساتذة
(Ecole normale supérieure de Lyon)
في مدينة ليون : http://cle.ens-lyon.fr

١. كل الحواشي السفلية هي من إضافات المترجمة.
٢. بروكست شخصية أسطورية من الأساطير الإغريقية، كان رجلاً عملاقاً وقاطع طريق. فإذا مر به أحد، أسره ووضعه على سرير ثابت القياسات؛ فإن كان أطول بتر الأعضاء التي لا يسعها طول السرير، وإن كان أقصر شدها وجذبها لتوافق طول السرير، وإن كان بطول السرير تماماً أطلق سراحه ونجا من الموت. انظر: المنجد في اللغة والأعلام، 2000. مجازاً هو مثال يُضرب لمن يعتبر أن مقاييسه هي الأفضل والمرجع الذي يحتم إزالة المقاييس الأخرى إن لم تتكيف مع مبادئه وعقيدته.
٣. إنجيل يوحنا البشير، الإصحاح الأول، العدد الأول.
٤. يشير الأب يواكيم هنا إلى الخلاف الذي حصل حول الكرسي البطريركي بين الأنبا شنودة ومتى المسكين. انظر الموقع الخاص بالأب متى المسكين : http://www.fathermatta.com/arabic/index.php
٥. هذه العبارات مقتبسة من الشاعر الفرنسي ملارميه (Mallarmé : 1842 ــــ 1898) ومأخوذة من ديوانه:
Le tombeau d’Edgar Poe.