المنافسة الإعلامية القائمة اليوم في الفضاء الافتراضي، التي انزلق إليها قسم كبير من الإعلام التقليدي بهدف استلحاق نفسه، والاستحواذ على قطعة من كعكة الرايتينغ المشتهاة، تستند حصراً إلى التعطش إلى الإثارة والسبق عن طريق النفخ في نار التحريض والفتنة مرةً، أو فتح الهواء لحالات فردية شاذة عن الفطرة البشرية السليمة مرات، بحجة أنها «ظواهر» تستحق التشريح وتشكّل جزءاً من المجتمع، أو عن طريق استدراج الضيف إلى شتم الآخرين من زملاء ومنافسين في مجالات الفن أو السياسة أو الرياضة أو غيرها، ونبش إساءات أو عداوات متبادلة بقيت سنوات طويلة طيّ الكتمان، وكان يفترض أن تبقى كذلك لولا أن صناعة «الترند» بأي ثمن، استدعت استحضارها ورميها في نقاش علني. من هنا اعترانا الشكّ لدى انطلاق بودكاست «حكي موزون» الذي يقدّمه الإعلامي والكاتب السياسي روني ألفا على حساباته عبر مختلف المنصات الافتراضية. لكنّ عدد المشاهدات التي يحصدها «حكي موزون» الذي يقدم حوارات غنية مع شخصيات لبنانية لم يحاورها أحد، عبر يوتيوب وسواها من المنصات، دليل على أن التحجّج برغبة الجمهور وذائقته للاكتفاء بتقديم التفاهة كان كذبة كبرى تنطوي على إهانة للجمهور نفسه. ومن الطبيعي هنا أن تلعب شخصية الضيف دورها في استقطاب المشاهدات والترويج لحلقات محددة، ولكن ذلك لا ينتقص من نجاح البودكاست أو من إمكانات معدّه ومقدّمه. هكذا مثلاً حصدت الحلقة التي حلّ فيها الوزير السابق وئام وهاب، نحو 56 ألف مشاهَدة بعد أقل من يوم واحد على عرضها، في مقابل مئات المشاهَدات فقط لحلقة رئيس «الاتحاد العمالي العام» بشارة الأسمر المعروضة منذ عشرة أيام. وبدلاً من أن ينجرّ روني ألفا إلى شروط اللعبة وطبائع الضيوف وأمزجتهم وحقولهم المعجمية، فعل العكس، وصنع أجواء تشبهه بعدما استطاع جذب هؤلاء إلى ساحته وإدخالهم في حوارات هادئة وبنّاءة، وفي طليعتهم نائب رئيس «التيار الوطني الحر» ناجي حايك صاحب المواقف الحادة التي جعلته دوماً عرضةً لانتقادات جمهور الأحزاب الأخرى، الحليفة للتيار قبل تلك المتخاصمة معه.استطاع ألفا إخراج أفضل ما لدى حايك، وساعده في تقديم أفكاره بصورة أقل استفزازاً، من دون أن يحرجه أو يدفعه دفعاً إلى تلطيفها، ولو كانت تختلف تماماً مع أفكار محاوِره. وروني ألفا كاتب سياسي قبل أن يكون محاوراً، ذو مواقف معلنة ومعروفة من القضايا المطروحة للتداول، ولا بد من أن تظهر في طيات الحوار، لكنه استطاع جعلها وسيلة مساعدة في إنضاج الحوار وتزخيمه بدلاً من أن تكون عائقاً له.
تلعب شخصية الضيف دورها في استقطاب المشاهدات


ابتعاد الإعلامي اللبناني عن «الفضائحية» في أدائه، وهدوؤه الذي انعكس على الضيف وعلى أجواء الحلقات، لم يطحا بجرأة الحوار وحرارته، ويمكن القول إن الكثير من المواقف السياسية التي وردت على لسان الشخصيات في الحلقات الستّ حتى الآن، جديرة بالاستحواذ على اهتمام الوسط السياسي وقبله الرأي العام، وبعضها جديد يعبّر عنه أصحابه للمرة الأولى، ومن شأن مقاطع قصيرة مقتطعة بعناية، تماشياً مع مقتضيات النشر في الفضاء الافتراضي وقواعده، أن تلقى رواجاً وتداولاً.
كما أنّ دماثة ألفا واحترامه للشخص الجالس قبالته لم يصلا به إلى حدّ النفاق والمجاملة، فلم يتردد في طرح كل ما يجول في خاطره، كسؤال ناجي حايك عن مدى كون مواقفه الحادة مجرّد «توزيع أدوار» داخل «التيار الوطني الحرّ» بطلب خاص من رئيسه الوزير السابق جبران باسيل، بهدف مزاحمة «القوات اللبنانية» على اجتذاب الشريحة المتشدّدة في الشارع المسيحي، أو سؤال رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي عن كون آرائه السلبية بحق باسيل تأتي في إطار المناكفة السياسية والانتقام من نتائج انتخابات 2022 أكثر من كونها قناعات حقيقية راسخة.
«حكي موزون» يحمل شعارات كبيرة يستعرضها «الجنريك» تباعاً قبل بداية الحلقة، وهي «صحافة حرّة»، و«أحداث تُروى»، و«إعلام رصين»، و«كلام موزون»، و«مواقف جريئة»، و«حوار بنّاء».
وينقسم البودكاست إلى ثلاثة محاور: «حكي موزون في السياسة»، و«حكي موزون عنهم»، و«حكي موزون عنك»، ولا تتجاوز مدته كاملاً أربعين دقيقة. وفي هذا الاختصار والتكثيف نقطة تُحسب له على قاعدة «خير الكلام ما قل ودلّ».