كلّما طالت حرب الإبادة الإسرائيلية، أخذ بعض الإعلام اللبناني مداه، مرتاحاً إلى أنّ هناك أطرافاً في البلد ستغطّي موبقاته، ولو كانت هذه الموبقات تنعكس رواية تنافس تلك الإسرائيلية في مستوى الصهينة، بل ربّما تتعدّاها في بعض الأحيان. هو ليس «تخويناً» أو اتّهاماً عشوائيّاً؛ فالصهيونية هي إيمان المرء بـ«حقّ وجود» الكيان العبري و«حقّه» في الدفاع عن نفسه، وهو ما يجاهر به كثر في لبنان ممّن باتوا لا يخجلون من الاعتراف به على العلن، قبل لعب دور الضحية عندما توصف أفعالهم كما هي. هذه هي حال «حادثة الرميش» التي تولّت وسائل إعلام عملية التضخيم والتوزيع نيابةً عن أحزاب تبحث عن قشّة طائفية تمدّد لها صلاحية تبريرات استمرار وجودها.هكذا، انتشر خبر قبل يومَين زعم أنّ أهالي الرميش منعوا المقاومة من إطلاق صورايخ من بلدتهم باتّجاه الأراضي المحتلّة («الأخبار» 27/3/2024)، مستنداً إلى «القال والقيل»، وكان واضحاً أنّ وراءه جهات هدفها التسييس وتوظيف الموضوع في خدمة البروباغندا الخاصّة بها. فلا أهالي الرميش أكّدوا وجود منصّات صواريخ، ولا المقاطع أظهرت أيّ أمر من القبيل، وحتّى توقيت انتشار الخبر كان بعد ساعات طويلة من الوقت المذكور الذي وقعت فيه الحادثة المزعومة. دُسّ الخبر على منصّات التواصل الاجتماعي، وبخّته وسائل إعلام من دون توخّي الدقّة وتقصّي الحقائق. بالطبع، كان «تلفزيون المرّ» أوّل من تلقّف المبادرة المشبعة بالفتنة، فانهمك يفرغ أحقاده ويتفوّق على نفسه في مرض الهوس المصاب به منذ زمن، حتّى يخال للمشاهد بألّا شيء يحصل في البلد والمنطقة سوى الحادثة المزعومة!
ابتدأت mtv مقدّمتها مساء الثلثاء ببخّ السموم عبر سؤال: «هل تحوّل حزب الله من رفع شعار «على طريق القدس» إلى رفع شعار «على طريق رميش»؟ الوقائع تشير إلى ذلك. فحرب إسناد غزّة التي لم تساند ولم تسند القطاع المدمّر كثيراً، استدعت قصفاً إسرائيليّاً على اللبنانيّين في الجنوب والبقاع». بكلّ ثقة، اعتبرت القناة الحادثة الوهمية «وقائع»، لتكمل باستغباء مشاهديها وتدجينهم على فكرة أنّ ليس هناك «إسناد»، متفوّقةً بذلك حتّى على الإعلام العبري الذي يعترف يوميّاً بالخسارات في الجبهة الشمالية، معطوفاً على صرخات المستوطنين «المبعدين» ونيّة قوات الاحتلال استدعاء جنود الاحتياط وحتّى تجنيد أبناء الحريديم. كلّ ذلك لا يهمّ عند mtv، فالمصالح عند الأحزاب التي تستسيغها أهمّ. وفوق ذلك، ألقت القناة المسؤولية بكلّ وقاحة على مَن تجرّأ على مقاومة الاحتلال، متجاهلةً كلّ اعتداءات الاحتلال على لبنان منذ ما قبل «طوفان الأقصى»، وحتّى قبل أن يكون هناك مَن يقاوم، أي منذ أوائل القرن الماضي. وأكملت مقدّمة mtv أنّ الحرب «تطوّرت اليوم بحيث حاولت مجموعة من حزب الله نصب راجمة صواريخ في رميش، ما ولّد ردّة فعل رافضة وغاضبة من الأهالي الرافضين زجّ بلدتهم ومنطقتهم في حرب عبثية لا جدوى منها. فهل يتّعظ حزب الله ممّا جرى وهل يستخلص العبر؟ وهل يدرك انطلاقاً من حادثة رميش، وقبلها من حادثة مماثلة جرت، شويّا في آب 2021، أنّ اللبنانيّين بمعظمهم لا يريدون الانخراط في هذه الحروب، ولا سيّما أنّها لا تأتي إلاّ بالخراب والدمار، وهي من دون أفق وبلا نتيجة؟». هكذا، نبشت mtv القبور، وخلطت الحابل بالنابل، وعمّمت رأيها على أنّه رأي «اللبنانيّين بمعظمهم» فيما استطلاعات للرأي أظهرت العكس، وفوق ذلك تريد للآخرين أن يروا من منظورها التبسيطي الذي لا يرى العالم سوى أسود أو أبيض، ولا يرى «أفقاً أو نتيجة» من مقاومة احتلال يحتلّ لبنان، الذي تدّعي القناة حرصها عليه وعلى سيادته، قبل فلسطين!
كلّ ذلك لم يكن كافياً، فالسموم الطائفية لم تُبخّ بعد. تُركت هذه للتقرير المخصّص للحادثة. تحت عنوان «مسلّحون يحاولون استباحة رميش والأهالي يتصدّون لتحويل بلدتهم الى ساحة للسلاح»، أقحمت mtv «أجراس الكنائس» من أجل شدّ العصب الطائفي، قبل أن تستضيف في التقرير رئيس بلدية رميش ميلاد العلم الذي قال بألّا مشكلة لديه بالقصف من أماكن بعيدة عن القرية، قبل أن تستنطقه معدّة التقرير زينة باسيل شمعون ليقول إنّ السيارتَين عادتا وأطلقتا الصواريخ من موقع آخر، رغم أنّهما سيّارتَان مدنيّتَان بالكاد يمكنهما تحميل مشتريات من المتجر! لكنّ العلم عاد وحفظ ماء الوجه عبر القول إنّ وجود أهالي الرميش في بلدتهم هو «لنقول للعدوّ الإسرائيلي إنّه لا يمكن لك أن تأخذ شبراً من أزض الجنوب وخصوصاً الرميش». ولم تنسَ معدّة التقرير إنهاء حفلة بخّ السموم بالقول إنّ الأهالي يريدون من القوى الأمنية «بمنع إطلاق الصورايخ من بين البيوت»، كأنّها تتبنّى الرواية الصهيونية بأنّ المقاومة تختبئ بين البيوت، لتعود وتنهي: «لا حياة لمَن تنادي». عبارة تنطبق على mtv نفسها.
على المنوال نفسه سارت LBCI، لكن بطريقة أقلّ نفوراً، فأوردت في نهاية مقدّمتها مساء الثلثاء: «لبنانيّاً، حادثة في بلدة رميش بين مجموعة من حزب الله أرادت نصب صواريخ في أحد أحراج البلدة، ما تسبّب في إشكال مع أبناء البلدة، هذه الحادثة ليست الأولى بل تتكرّر في أكثر من بلدة لعلّ أبرزها التي خرجت إلى الإعلام حادثة شويّا». وهنا، يمكن ملاحظة التناغم بين المحرّضين على مواقع التواصل وكلّ من mtv وLBCI في الإصرار على مقارنة ما حصل بحادثة شويّا بالتحديد، لا حادثة الرميش السابقة مثلاً أو الكحّالة أو خلدة أو غيرها من محاولات فاشلة لإشعال الفتنة. ويمكن ملاحظة توجّه جديد لدى LBCI أخيراً، كانت توجّته الأسبوع الماضي بتقرير من توقيع رنيم أبو خزام، أتى في نهاية النشرة، حتّى بعد نشرة الطقس، كأنّه إعلان مدفوع، وهدف لتلميع صورة الإمارات المتّحدة، فراحت أبو خزام «تفخّت» بلبنان من أجل المقارنة، ولم تنسَ توجيه الرسائل السياسية عبر دسّ مقطع للسيّد حسن نصرالله وهو يقول «الخلوي عدوّ» لتربطه بفكرة أنّ «لبنان متخلّف تكنولوجيّاً». في بثوانٍ معدودة، أجهض التقرير كلّ جهود القناة من أجل لعب دور محايد وإيجابي، وباتت «أخطاء» مماثلة تتكرّر في الآونة الأخيرة.
وحدها «الجديد» من بين القنوات المهيمنة تعاطت مع الموضوع باتّزان، فورد في مقدّمتها مساء الثلثاء أنّ «حزب الله واجه أزمة المنصّات بعدما قُرعت أجراس الكنائس في بلدة رميش الحدودية على إثر شكوك من أحد أبناء البلدة بوجود عناصر من الحزب قرب الثانوية وهي تستعدّ لإطلاق صواريخ باتّجاه فلسطين المحتلّة. غير أنّ هذه الرواية شكّكت بها مصادر الحزب، إذ أظهرت كاميرات المراقبة سيّارتَين تغادران البلدة لكن لوجستيًّا لا يمكن أن تضمّ السيّارتان منصّات لإطلاق الصواريخ, بسبب حجم هذه المنصّات الكبير وصغر السيّارتَين المرصودتَين بكاميرات أهل البلدة».
أمّا فجر يوم الأربعاء، ومع إغارة العدوّ على مركز الطوارئ والإغاثة الإسلامية في الهبّارية الذي أدّى إلى استشهاد سبعة مسعفين، تصاعدت المطالبات لوسائل الإعلام بنقل الخبر، فيما أدارت الأذن الطرشاء كأنّ لا شيء يحدث، باستثناء بعض القنوات الداعمة للمقاومة التي لا تنقطع عن بثّ التطوّرات. لكنّ القنوات تعاطت مع الخبر كما تعاطت مع كلّ الأخبار المشابهة قبله، فتركته لنشرات الأخبار والبرامج السياسية. إلّا أنّ التطوّر هذا أجبر mtv على إعادة توازن لهجتها، ما يذكّر بالمدّ والجزر الذين تتأرجح بينهما القناة منذ «طوفان الأقصى» ربطاً باحتدام الأمور على الجبهة اللبنانية من عدمها. أمّا LBCI فلم تتطرّق إلى الموضوع في مقدّمتها مساء الأربعاء، رغم أنّها بثّت تقريراً حوله.
على ضفّة أخرى، يزداد التململ على منصّات التواصل من بعض الإعلاميّين الذين يدعمون سردية العدوّ. آخر هؤلاء الإعلامي اللبناني نديم قطيش العامل في قناة «سكاي نيوز عربية»، الذي انتشر مقطع له وهو يستعرض «التطوّر التكنولوجي» في الإمارات والسعودية، واضعاً ذلك بوجه «الحصار» في غزّة، لكن ليس من باب انتقاد كيان الاحتلال الذي يمنع كلّ الدول المحيطة من التطوّر التكنولوجي ويقرصن شبكاتها ويتجسّس على حكوماتها. لا. بالنسبة إلى قطيش، هناك «شرقَان أوسطَيان: شرق أوسط أولويّته المقاومة ونتائجها المجاعة، وشرق أوسط أولويّته السلام ونتائجه النجاح. شرق أوسط عايش بالماضي، وشرق أوسط عم يصنع المستقبل». بكلّ سفالة، أهان قطيش شعباً يقع تحت الاحتلال لأنّ «أولويّته المقاومة»! فوق ذلك، قارنه مع بلدان لم تعرف الاحتلال الإسرائيلي يوماً، بل إنّها طبّعت مع كيان الاحتلال وتعاونت معه أمنيّاً وتكنولوجيّاً. وعبر تبنّي الرواية الإسرائيلية بحذافيرها، اعتبر أنّ مَن يتجرّأ على مقاومة الحصار «مصيره المجاعة»، واعتبر التطبيع «سلاماً» ينتج «نجاحاً»، واتّهم غزّة المحاصَرة، منذ ما قبل «طوفان الأقصى»، بأنّها تعيش بالماضي، كأنّ هذا ما أراده الغزّاويّون. أساساً، هل يدرك قطيش أنّ طلّاب غزّة يبتكرون الروبوتات رغم كلّ المصاعب؟ وفوق ذلك، ألا يرى الإنجازات التكنولوجية الهائلة لدى المقاومة في لبنان وفلسطين، التي حقّقتها بقدراتها الذاتية، وهو ما لم تتمكّن دول بأكملها، بما فيها تلك التي يدافع عنها، من الوصول إليها؟ في سياق متّصل، تبرز انتقادات لعرب يدافعون عن كيان العدوّ، آخرهم مؤثّرة على منصّات التواصل تدعى جولين تدّعي أنّها لبنانية تعيش في «إسرائيل»، وتحاول الدفاع عن الكيان العبري في فيديواتها، لكن مع تناقضات كثيرة مثل قولها تارةً إنّ «إسرائيل تُدخل المساعدات إلى غزّة» وطوراً إنّه «آن الأوان لكي توقف إسرائيل إدخال المساعدات إلى غزّة».
في كلّ الأحوال، بين وسائل إعلام في الداخل تخدم العدوّ من حيث تعلم أو لا تعلم، ولبنانيّين آخرين في الخارج وقحين بدعمهم إبادة جماعية أدانتها كلّ ما هنالك من مؤسّسات وعلى رأسها الأمم المتّحدة، لا تزال غالبية اللبنانيّين على طرف نقيض. يبقى هناك لبنانيّون أبطال، دخلوا التاريخ، مثل شهداء الهبّارية والمقاومين الذين يقدّمون كلّ ما لديهم في سياق إسناد غزّة الجريحة أوّلاً وتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة ثانيًا. بين مَن يعتلي هضاب ربّ ثلاثين، ومَن باع نفسه بثلاثين من الفضّة، لا أثر لكلّ الضجيج الإسخريوطي على أرض الواقع طالما أنّ الحقّ ينصر أصحابه على مَن قدّموا أرواحهم إلى عزرائيل.