في حين كانت فعالية VivaTech، معرض التكنولوجيا السنوي الأكبر في أوروبا، هي الحدث في مدينة المعارض Porte de Versailles في باريس منذ يوم الأربعاء الفائت 14 حزيران، كان الملياردير الأشهر إيلون ماسك، مالك «تسلا»، «سبايس إكس»، «تويتر»، «بورينغ» ومؤسس مشارك في «نورالينك»، عملياً، هو الحدث تحت قبّتها يوم الجمعة الماضي.هي الزيارة الثانية لماسك إلى فرنسا واللقاء الثاني له مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال شهرٍ واحد، إذ كان لماسك تواجدٌ في النسخة السادسة من فعالية Choose France التي احتضنت منتصف أيار الفائت في فرساي أكثر من مئتي اسمٍ من كبار رؤساء الشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات، وعد فيها ماسك بأنه سيكون هناك «استثمارات كبيرة» في فرنسا لشركة تصنيع السيارات الكهربائية «تسلا». يأتي ذلك منسجماً مع تداعيات التوترات الجيوسياسية الصينية-الأميركية التي تنعكس قيوداً وعقباتٍ في طريق ماسك بالرغم من حرصه عبر سنوات نشاطه الاقتصادي على الحفاظ على علاقة جيدة ومتوازنة مع الصين، ما يجعل من القارة العجوز منفذاً بديلاً لنشاطه. وهو ما جرى تأويله احتماليةً لتأسيس المصنع الضخم الثاني في أوروبا لسيارات «تسلا» في فرنسا الطامحة أن يقع عليها خيار ماسك باحتضانه، متنافسةً على نيل رضاه مع إسبانيا وإيطاليا بعد أن وقع اختياره على عملاق صناعة السيارات، ألمانيا، لإنشاء المعمل الأول منذ أربع سنوات. وبالرغم من قبول ماسك لدعوة الغداء في الإيليزيه قبل ساعاتٍ من مداخلته، إلا أنه لم ينبس ببنت شفة بهذا الخصوص، ما تُرجم خيبةً لدى المعنيين والرأي العام المتطلع إلى خبرٍ بهذا الوزن.
رغم موجة الحرّ التي تشهدها باريس هذه الأيام، ووسط إجراءات أمنية مشددة، بدأ طابورٌ طويل بالتشكل خارج مقر اللقاء قبل ساعات من الموعد الذي يتطلع إليه كثيرون: الساعة الرابعة بعد الظهر. إن محض رؤية شخصيةٍ عامة بهذا الوزن هي «امتيازٌ» بنظر شريحة ليست بالقليلة من الناس، فما بالك باحتمالية أن يقع على أي منهم الاختيار لطرح سؤال عليه بشكل مباشر.
لم يجرِ استقبال ماسك في صالة العرض الأكبر في جناح المعرض حيث تجري استضافة أغلب الضيوف المتحدثين من كبرى الشخصيات، بل خُصصت له «قبة باريس»، منشأةٌ معدنية على شكل نصف كرة، تخالها أحد عناصر أفلام الخيال العلمي، بسعة 4500 مقعد، تخصص عادةً لاحتضان الحفلات الموسيقية الضخمة، ولم يسبقه إليها من شخصياتٍ عامة في مجال التكنولوجيا والأعمال سوى الراحل ستيف جوبز، مؤسس شركة «آبل»، لإلقاء كلمات أو إطلاق منتجات جديدة.
وقع الاختيار على موريس ليفي، رجل الأعمال الفرنسي المغربي ورئيس هيئة الرقابة لمجموعة Publicis، ثالث كبريات الشركات الإعلامية في العالم، وأحد المشاركين في تنظيم VivaTech، لمحاورته. وبعد محاولةٍ من ليفي لاستفزاز الحضور بإعلان عدم تمكّن ماسك من الحضور، استقبل خبراء وهواة التكنولوجيا على السواء الرجل الأغنى والأكثر إثارةً للجدل في العالم استقبال الأباطرة بتصفيقٍ حار والكثير من الحماسة، وعلى وقع صيحات «نحن نحبك إيلون».
«خجول حد الانغلاق، يحب المخاطرة، يبحر عكس التيار والمنطق العام، لكنه أثبت على الدوام أن خياراته كانت صائبة...» مقدمةٌ موجزة عن شخصيةٍ غنية عن التعريف، قطع ماسك مازحاً بعدها شك غير المصدقين باليقين أنه ليس صورةً ثلاثية الأبعاد (هولوغرام)، وكشف عن وجود والدته -الشاهدة على شغفه بالتكنولوجيا والخيال العلمي منذ سن مبكرة- في الصف الأول بين الحضور.
خلال مداخلته التي خصصت لها ساعةٌ من الوقت، والتي أخذت أسلوب البرامج الحوارية الأميركية، ناقش ماسك مواضيع مختلفة يمكن تبويبها في المحاور التالية: صفقة استملاك «تويتر» وأزمة حرية التعبير، الذكاء الاصطناعي (AI) ورؤيته للمستقبل، شركة «نورالينك» والضجة التي أثارها إعلانها الأخير حول زرع شريحة عصبية في الدماغ، إضافةً للتطرق إلى «تسلا» و«سبايس إكس».

«تويتر»
كان السؤال الأول الذي طرحه موريس ليفي على ماسك يتعلق بشبكة التواصل الاجتماعي «تويتر»، التي غدا مالكها العام الماضي بصفقة بقيمة 44 مليار دولار، ما إذا كان هذا الثمن باهظاً من أجل منصة كهذه. رد ماسك على السؤال بقوله: «إذا كنتُ ذكياً كما يُشاع، فلماذا أدفع ثمناً باهظاً بهذا الشكل لامتلاك تويتر؟»
ورداً على تباين الرأي العام حيال كونه شريراً أم عبقرياً، قال: «يمكن للمرء أن يكون شريراً-عبقرياً في آن... أنا لست شريراً، تطلعاتي ليست شريرة على الأقل». وحول قدرته على المضي في تنفيذ العديد من المشاريع الضخمة والسير بها في نفس الوقت، قال: «الكريستال ميث (أو مادة الأمفيتامين المنبهة للجهاز العصبي) تجعلك تقوم بأشياء عظيمة، إن كنتَ ممن يؤمنون أن مشروب الطاقة (ريد بول) يعطي أجنحة».
دافع ماسك، المعروف بحضوره النشط على «تويتر»، عن فكرة بقاء منصة التواصل الاجتماعي هذه بعيدة عن الرقابة، محذراً من عواقب الرقابة ومشدداً على إيمانه بحرية التعبير المطلقة، من منظور أنه إذا تم حظر شخصٍ أو محتوى لمجرد أنك لا تتفق معه، فستكون مسألة وقت فقط قبل أن ينقلب السحر عليك.
بالرغم من اعترافه بأن التعرض للتعديات على وسائل التواصل الاجتماعي هو تجربة ذات أثرٍ سلبي، إلا أن ذلك لا يغير شيئاً من موقفه حيال أهمية حرية التعبير (Freedom of speech) التي يراها مختلفة تماماً عن حرية الوصول إلى الجمهور، إذ ينبغي أن يكون بإمكان أي شخص نشر ما يشاء من محتوى، حتى لو كان مؤذياً، لكن لن يكون بوسع صاحب المحتوى المؤذي في نهاية المطاف إيصاله إلى شرائح واسعة من المتابعين. ولعل أبرز ما تُرجمت إليه وجهة النظر هذه كانت بإلغاء ماسك تعليق حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ذي المواقف السياسية المتطرفة على «تويتر» بمجرد دخول صفقة الاستحواذ عليه حيز التنفيذ.
ناقش ماسك مخاوفه بشأن الآثار السلبية لمنصات التواصل الاجتماعي هذه على الحضارة البشرية، وأعرب عن قناعته بأن كل ما يمكن أن يقوّض الحضارة هو أمرٌ ضار، لذا فإن الغاية وراء قرار شرائه لموقع «تويتر» كانت «الحفاظ على الحضارة من التبعات السيئة لجانبها المدمر». «نشهد ارتفاعاً في عدد مستخدمي تويتر كل أسبوع، لذا فإن الزيادة في الوقت الذي يقضيه المستخدم على تويتر أمر مؤكد، وكذلك حقيقة أن كبار المعلنين قد عادوا أو قالوا إنهم سيعودون. إن تويتر قوةٌ إيجابيةٌ للحضارة!».

«تسلا»
جاءت شركة «تسلا» وسياراتها الكهربائية لملء الفراغ الذي شكله سحب سيارات «جنرال موتورز» من السوق أواخر التسعينيات، وردة فعل مستخدميها الأوفياء حيال ذلك. مع ذلك فإن السيارات الكهربائية الموضوعة قيد الاستخدام اليوم في العالم لا تتجاوز 1%، ومازال هناك الكثير للقيام به لتبلغ «تسلا» مبتغاها كشركة. ورداً على سؤال أنطوان أرنو (مالك LVMH)، حول القيمة الفعلية التي يحاول ماسك خلقها وإكسابها لسيارة «تسلا» والتي قد لا تضاهي بنظر البعض القيمة المادية الباهظة لها، ميّز ماسك بين مفهومَي القيمة المادية للأشياء وتلك المكتسبة من الاستخدام، إذ يرى ماسك أن عدد السيارات المباعة من قبل الشركة -مليوني سيارة العام الفائت- وثمن هذه السيارات ليسا ما يحدد قيمتها، وأعطى مثالاً الفرق بين استخدام السيارة الشخصية، الذي قد لا يتجاوز 10 ساعات في الأسبوع، وسيارة الأجرة الكهربائية التي قد يصل استخدامها إلى 50 أو 60 ساعة في الأسبوع، أي بمعدل استعمال يفوق الأول بخمسة أضعاف لأجل السعر ذاته، وهذا تُرجم بالفعل على الأرض توجهاً متزايداً لاستخدام سيارة «تسلا» من قبل مشغلي سيارات الأجرة وأوبر وغيرها.

«سبايس إكس»
أما عن مشروع «سبايس إكس»، يشرح ماسك أنه يطمح، كي تظل الأرض آمنة للحضارة البشرية، لتوسع الحياة لتشمل بقية الكواكب في المجرة، ولمَ لا يشمل ذلك مجرات جديدة أيضاً. بقناعة ماسك أنه لو كانت هناك مخلوقات فضائية، لكان قد تمكن من رؤيتها، لذا فهو ميالٌ لاستبعاد هذه الفرضية، أقله في مجرتنا. إن الحياة البشرية برأيه، وما يميزها من وعيٍ وإدراك، هي بمثابة الشمعة وسط العتمة، ويتعين علينا فعل كل ما بوسعنا لجعلها مستدامةً قدر المستطاع، كي لا يفقد الإنسان دافعه وشغفه الذي يحركه للاستمرار حين يستيقظ كل صباح.

الذكاء الاصطناعي
يرى ماسك أنّ العالم يعيش سِباقاً لإنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي قوية يمكنها أن تتجاوز الفهم والتحكم البشريين، وهو ما قد تنجم عنه نتائج كارثية محتملة إذا لم يتم التعامل معه بعناية. وقد أعرب ماسك عن مخاوفه بشأن تطوير الذكاء الاصطناعي الخارق وكان قد دعا إلى وقفه لفترة 6 أشهر في بيانٍ نُشر في آذار الفائت، وقد أيدَته في وجهة النظر هذه أسماء لامعة في عالم العلوم والتكنولوجيا. وذهب ماسك بعيداً حد الكشف عن مخاوفه من دنوّ «نهاية العالم» بفعل الذكاء الاصطناعي، إلا أنه قال مازحاً: «إذا قيض لنا أن نشهد نهاية العالم بسبب الذكاء الاصطناعي، فأعتقد أني أرغب أن أكون على قيد الحياة حينها، وأتمنى ألا أكون أنا المسبب لها».
بعكس موقفه حيال «تويتر»، فقد شدد ماسك على الحاجة إلى تنظيم الذكاء الاصطناعي وقوننته «تحت غطاءٍ متحررٍ للغاية»، إذ يتضح أنه مدرك تماماً لمخاطر انجراف الذكاء الاصطناعي ويفضل «استشرافها والسيطرة عليها، بدلاً من التصرف بعد وقوعها» فكل ما قد يشكل خطراً على العامة يتطلب شكلاً من أشكال الرقابة.

«نورالينك»
عقب الضجة التي أثارها الإعلان الأخير لشركة Neuralink المملوكة من ماسك عن حصولها على تصريح في الولايات المتحدة لإجراء تجارب سريرية على البشر في وقت لاحق من هذا العام لزرع شريحة عصبية في الدماغ، أكد ماسك أن Neuralink عملية طويلة لن نشهد ثمارها في القريب العاجل، لكن الغاية منها تمكين الأشخاص المصابين بالشلل وغيرها من الأمراض العصبية من التواصل مع الأجهزة الحاسوبية والآلات المدارة بالأنظمة الحاسوبية والتحكم فيها بقوة التفكير. من المفترض أن تجري أول عملية زرع لهذه الشريحة في دماغ مريضٍ مصاب بالشلل الرباعي هذا العام، وإذا سارت الأمور كما ينبغي، فمن المنتظر أن يغدو المريض قادراً على استعادة الوظائف العصبية الحسية والحركية التي فقدها، واستعادة استخدام جسده.
في حين بدا إيلون ماسك طبيعياً جداً في أغلب المواضع خلال الجلسة الحوارية، وأقرب إلى إنسان غير مدرب إعلامياً ما يكفي لاعتلاء منصات العرض والوقوف تحت الأضواء في مواضع أخرى اقتصرت فيها ردوده على ... Yeah وOK، أخذت إجابات ماسك حيال المواضيع التي جرى التطرق إليها شكل إضاءاتٍ ولمحات وجمل قصيرة لا تُضيف الكثير إلى البيانات الرسمية، والأكيد أنها لا تُشبع بما يكفي حرارة فضول الجمهور المتعطش للمزيد، ولعل الغموض استراتيجيةٌ، بل وأداةٌ من أدوات المهنة يتقن ماسك استخدامها جيداً.
يُقال، تكتسب الأمور أهميتها من مدى قدرتها على إحداث الجدل. إيلون ماسك شخصيّةٌ مثيرةٌ للجدل من دون أدنى شك، لكنّ هذا ليس وحسب ما أكسبه أهميته. إنه أحد أبرز القوى الاقتصادية الفاعلة في زمننا -ولربما أكثرها ثقلاً- في ثلةٍ من المجالات المتباينة بمكان، على نحوٍ لا تجد بينها قاسماً مشتركاً سوى التكنولوجيا ما بعد الحداثية. لا تكتسب هذه التكنولوجيا والمجالات، ومن يقف وراءها بطبيعة الحال، قيمتها وأهميتها من مدى إثارتها للجدل، بل من القدر الذي تمسّ به أدق تفاصيل الحياة اليومية لبشرٍ عاديين ممن لا ناقة لهم ولا جَمَل ولا حتى درايةً أو اهتماماً بمن يحرّك الخيوط الشفافة للدمى التي هي نحن، الذين قُيّض لنا أن نعاصر زمن إيلون ماسك وأقرانه. وبالرغم من أن ما سيتسنى للمتابع والمهتم معرفته بنتيجة تتبعٍ منهجيٍ مكثف لكل حركةٍ وسكونٍ، بل ولأبسط التغريدات التي تصدر عن هؤلاء ممن امتلكوا النفوذ والسطوة لجعل العالم لعبةً كبيرة من ألعاب الخيال العلمي التي نشؤوا عليها، لن تُكشف لنا سوى قمة جبل الجليد لما يتم تحضيره لعالمنا في الكواليس. إلا أن طمر الرأس كالنعامة في التراب وتجاهل ما يجري وراء هذه الكواليس بحجة أننا غير معنيين بذلك سيكون النكران والخطأ بعينه.