يحتاج السوريون إلى جرعات إضافية من الحنين كي يستعيدوا زمناً لن يتكرّر، حتى لو كان بالأبيض والأسود، على الأرجح لأنه كذلك، فالزمن الملوّن لطّخ الذاكرة بالأحمر أكثر من سواه. رحيل موفق الخاني أمس عن 99 عاماً، أيقظ شجناً جماعياً نحو صاحب أقدم وأشهر برنامج تلفزيوني في ذاكرة السوريين «من الألف إلى الياء»، البرنامج الذي استمر نحو ألفي حلقة (1963- 2005). كان لهذا البرنامج أن يستمر أكثر من ذلك، لكنّ قراراً أحمق أمرّ بإيقافه لمصلحة برامج التسلية، إذ لا يجوز أن نهدر سهرة الخميس على قناة الفضائية السورية لـ «مختارات من دائرة المعارف». لا يتذكّر أحد اليوم ما الحصة التلفزيونية البديلة التي احتلت أرض البرنامج، ولا حتى اسم مدير التلفزيون الذي أصدر القرار (أظنُّ أنهم اخترعوا وقتها معجزة «تيس البوكمال» الذي كان يقطر حليباً مقدّساً يشفي أصحاب الأمراض المستعصية)، لكن شارة البرنامج لا تزال حاضرة في الأذهان، بطائراتها الشراعية وقطاراتها وموسيقاها المؤثرة. وجبة علمية مبسّطة وجذّابة لا تشبه دروس العلوم والفيزياء في المدارس، ومقدّم رصين بصوت رخيم يجذب إليه المشاهد من دون إكراه. أمس، شعر جيل من السوريين بأن الموت نهب جزءاً من ذاكرتهم الحميمة، لم ينسوا فضيلة الرجل الذي عاش قرناً كاملاً، من دون أن يلوّث تاريخه بما لوّث تاريخ الآخرين، فقد حارب تاريخ الخرافة طوال أربعين عاماً. ولكن من هو موفق الخاني خارج الشاشة؟درس علوم الطيران باكراً، وشارك بطائرته في حرب الانقاذ في فلسطين 1948. وبعد انسحاب القوات الفرنسية من البلاد، أسهم مع رفاقه في تأسيس سلاح الطيران الحربي السوري، ثم أسس شركة الطيران السورية، ثم نادي الطيران الشراعي، قبل أن يلتفت إلى إعداد البرامج العلمية في الإذاعة السورية، ثم «مجلة العلوم» في التلفزيون السوري بداية تأسيسه في مطلع ستينيات القرن المنصرم، كما كان أول مدير عام للمؤسسة العامة للسينما (1965). أمس، حلّق ملايين السوريين مع روح موفق الخاني، وأغلقوا الأبجدية على حرف الياء.