حلقتان فقط من مسلسل Lovecraft Country، وكنا أمام تحفة HBO الجديدة. الشركة الأميركية التي كانت قد قدّمت مسلسل «صراع العروش» الشهير تحاول هذه المرّة أن تشد كل جمهور التلفاز ناحية مسلسل جديد يليق بقيمتها كشركةٍ رئيسية منافسة، مقارنةً مع نيتفليكس التي «تأكل الأخضر واليابس» في هذا المجال. المسلسل المكوّن من عشر حلقات، على عادة الدراما التلفزيونية الحديثة، يكتبه وينتجه أربعة من عمالقة التلفزيون الحاليين عن قصّة كوميكس للكاتب مات رف. جوردان بيلي الذي عرفه الجمهور مع فيلمي رعبه المهمين اللذين كتبهما وأخرجهما get out وus، جيفري جيكوب أبرامز (أو كما يعرف جي جي أبرامز) مخرج آخر فيلمين من سلسلة «حرب النجوم الشهيرة»، فضلاً عن إدارته للعديد من المسلسلات المهمة كـمنتج منفذ، ميشا غرين الكاتبة القديرة والمعروف التي قدّمت في السابق مسلسل Heroes وunderground. دانيال ساكيم المبدع خلف مسلسلات مثل X-files وHouse.نحن في Lovecraf Country أمام عملٍ كبير يحكي قصّة الشاب أتيكوس «تيك» فريمان (جوناثان ميجورز)، العائد من حرب فيتنام الذي يتلقى رسالة من والده الذي تركه صغيراً، يطلب منه القدوم إليه حيث هو للمطالبة بإرثه. أتيكوس الذي يترافق في تلك الرحلة مع ليتي ليوس (جورني سموليت) صديقته منذ الطفولة، والمغنيّة الفاشلة التي تبحث عن مكانٍ تقيم فيه. وعمّه جورج فريمان (كورتني بي فانس) المثقف، الذكي الذي يقوم بصناعة خرائط لتجنيب «الأميركيين من أصل أفريقي» الطرق التي قد تؤدي بهم للتعرض للخطر جراء الفصل العنصري السائد آنذاك. تتعقّد القصة حينما نعرف بأنَّ المدينة المقصودة التي يبحثون عنها «درهام» مفقودة الأثر، أي ليس هناك خريطة لها. تصل الأمور إلى ذروتها حينما تبدأ الأمور بالتكشّف أمام عالمٍ من السحر والمشعوذين والراغبين بالخلود والوحوش الأسطورية.
يقدّم ثلاثي البطولة جورني سموليت وجوناثان ميجورز وكورتني بي فانس أداءً يليق بهكذا مسلسل، فلا تشعر أنهم يمثّلون، إنهم يؤدون بطريقةٍ أقرب إلى method acting منه إلى أي شيءٍ آخر. أنت تشعر مثلاً -كمشاهد- بآلام ركبتي العم جورج اللتين تعرضتا لإطلاق نارٍ في حوادث سابقةٍ يتحدّث عنها، كما تشعر بقوة شخصيته في تخطيه لإحدى تعاويذ الخداع. جورني سموليت بدورها، تعطي أداء كما لو أنّها خلقت للدور: هي عابثة، مازحة، لكنها في نفس الوقت مكسورة من الداخل تعرف كيف تكون قوية متى تحتاج ذلك. تصرخ في العم جورج حينما لا يعرف إسمها ويسميها بفتاة، فتصرخ به أن يقول إسمها وهي تقود السيارة لإنقاذهم من أحد العنصريين البيض. جوناثان ميجورز بدوره يؤدي بكل احتراف شخصية الشاب الذكي العائد من الحرب بجروحٍ داخليةٍ كثيرة وبجسدٍ مفتول العضلات. جسد لم يكن يمتلك مثله في السابق وهذا يلاحظ في تعليق ليتي عنه حينما تقول لشقيقتها: «هل هذا هو «تيك»؟ الذي كان ينهكه رأسه لكثرة التفكير» مبهورة بجسده المفتول العضلات. هو رغم هذا لا ينتبه كثيراً لهذا الجسد، بل يعتبر أنه لا يزال «تيك» الفتى الذي يرغب برسم الكوميكس، وكتابة القصص. إنه nerd بحسب التوصيف الأميركي للكلمة، مع جسد «كابتن أميركا» من مارفل كوميكس؛ ولكن أسود البشرة.
واحدة من نقاط القوّة البالغة في المسلسل هي أنّنا أمام قصة اجتماعية تحكي عن العنصرية السائدة في أميركا في ذلك الوقت (ستينيات وسبعينيات القرن الماضي)؛ عنصرية متوحشة فيلاحق أحد رجال الشرطة أبطال المسلسل، مهدداً إياهم بتعليقهم على المشانق إذا ما شاهدهم في مقاطعته بعد ساعةٍ معينة. أحياء لا يدخلها إلا البيض، باصات تمارس فصلاً عنصرياً داخلياً: الأمام للبيض، الخلف للملونين. حانات/ مطاعم لا يدخلها إلا البيض مع لافتات تؤكد الأمر وتثبته. إننا هنا لسنا أمام مسلسل خيال علمي يحكي أبطالاً وخوارق، بل أمام مسلسل اجتماعي ذي قصّة تحدث فيها أمورٌ خارقةٌ للطبيعة. الخارق للمعتاد هنا هو الهامش، فيما القصّة الأصلية هي الأساس. إذ نسمع كلمة «ملون» وتأثيراتها وتداعياتها في كل لحظات المسلسل وعلى مختلف الأصعدة. ميشا جرين وجوردان بيلي بذلا جهداً كبيراً في تقديم قصّة تظهر وحشية الشرطة البيضاء -التي تتمظهر حديثاً هذه الأيّام- في قصةٍ من ذاك العصر.
المسلسل الذي يبدأ باحترافٍ شديد يضعنا أمام مشهدٍ خيالي كان يحلم به بطل المسلسل. ضم هذا المشهد العديد من القصص الخيالية مدموجة معاً: من صراع العوالم لأتش جي ويلز حيث نشاهد المركبات الفضائية التي تطلق أشعة الليزر وتدمّر المنازل تحتها، إلى أميرة المريخ لكاتب «طرزان» إدغار رايس بوروز حينما نشاهد فتاةً حمراء اللون تأتي لتعانق البطل، إلى «في جبل الجنون» لاتش بي لوفكرافت مع الوحوش الخيالية المرعبة كالأخطبوط الضخم الذي يمتلك أجنحة وطواط وأسناناً حادة وفماً كبيراً، حادثة روزويل الشهيرة من العام 1947 والتي يقال أنه شوهدت/ نزلت صحون طائرة من الفضاء وتحطمت هناك، مع صحونها الطائرة المحلقة التي تبعث الخوف الكبير؛ يضاف إلى كل هذا جاكي روبنسون لاعب كرة القاعدة (البايسبول) الشهير الذي يأتي لإنقاذ البطل من الأخطبوط الطائر. يضاف إلى هذا الإشارات الكثيرة في المسلسل أمور متعددة، إذ يشير أحد الكتب إلى «مطبعة أركهام» وأركهام هي المستشفى النفساني الشهير في مدينة «جوثام» من دي سي كوميكس. طبعاً هنا لا ننسى بأنَّ اسم المسلسل أساساً مأخوذ من اسم أحد أشهر كتّاب قصص «الرعب» في التاريخ الأميركي «أتش بي لوفكرافت». تبقى إضافات هامة وقد تمر مرور الكرام لمن لا يعرفها، مثل إعادة خلق صورة كان المصوران الشهيران جوردن باركس ومارجريت بورك وايت كانا قد صوراها إبان الفصل العنصري في ذلك الوقت؛ أو استعمال شعر لسكوت جيل هيرون الشاعر والمغني الأميركي الأسمر الشهير الذي قدّم سابقاً The Revolution will not be televised كجزء من الخلفية في لحظاتٍ ما. هنا، نحنُ أمام تحفةٍ فنية جميلة للغاية، تحفةٌ لا تقل أبداً عن «صراع العروش»؛ تحفةٌ تصارع hbo من خلالها وبقوة على عرش الدارما لهذا الموسم.