منذ بدء العدوان الهمجي غير المسبوق على قطاع غزة، وربما الأكثر عنفاً منذ حرب النكبة واحتلال فلسطين عام 1948، وجيش الاحتلال يغرق أكثر في دوامة فشله العسكري والإعلامي. في الشهر الثالث لمعركة «طوفان الأقصى»، لم يستطع العدو الصهيوني تحقيق أيّ هدفٍ حقيقي وفقاً للرأي العام الإسرائيلي والصحف العبرية، سوى ارتكاب جرائم حرب من حيث نوع الأسلحة وطبيعة الأماكن المستهدفة والإبادة المتعمّدة للغزّيين في شمال القطاع. ومع أنّه استنفدَ كل جهوده في محاولاته المتكرّرة لتضليل الجماهير حول العالم عبر تصدير الصور والأخبار المفبركة، إلّا أنّ الإعلام البديل فضح تلك الادّعاءات وكشف زيفها عبر رد الصور إلى أصلها بعد نزع التعديلات عنها، ونشر مقاطع حقيقية مصوّرة لأرض المعركة. في هذه المقالة محاولة لقراءة الحرب عبر الصور المنتجة ونظرية الواقع المفرط أو «ما فوق الواقع» (Hyperreality)، أي المزج بين الواقع والخيال إلى درجة عدم التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مصطنع وفقاً للفيلسوف الفرنسي جان بودريار (1929-2007). كما تقترح المقالة تصنيف أو إدراج ما ينشره الإعلام الصهيوني (الإسرائيلي والغربي) تحت مصطلح «السيمولاكرا» Simulacra، أي صورة/ نسخة ومحاكاة للواقع فقدت أصلها وأي صلة حقيقية لها، فأصبحت لا تمثّل إلا نفسها وفقاً لما قدّمه بودريار، بينما يبقى الإعلام البديل يقدّم صوراً تعدّ تمثيلاً للواقع (representation)، أي نسخة مُخلِصة له وعنه.

العديد من الفيديوات نُشر من دون مونتاج ربما لضيق الوقت

عُرف الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار بأطروحته للدكتوراه/ كتابه الأول «نظام الأشياء» (1968)، لكنه اشتهر خارج الأوساط الأكاديمية عبر كتابه (1981)Simulacra and Simulation («المصطنع والاصطناع» أو «التظاهرات والمحاكاة»، حسب اختلاف الترجمات العربية) الذي شاهده الملايين حول العالم في مكتبة «نيو» (قام بدوره الممثل كيانو ريفز) في فيلم «المصفوفة» The Matrix (1999)حيث كان يخبّئ في داخله ملفّات القرصنة الرقمية السرّية. اعتبر الأخوان وَتْشاوسْكي (قبل أن يتحوّلا جندريّاً إلى الأختين وتشاوسكي) اللذان تأثّرا بشدة بنظريات بودريار ، أنّ العالم الذي نعيش فيه ليس هو الحقيقة أو الواقع الحقيقي، إنّما هو مجرّد محاكاة خادعة يسيطر عليها الذكاء الاصطناعي. بالفعل، جاءت فكرة الماتريكس من الكتاب الذي يُعد أكاديمياً «معقّداً» أو غير سهل، ويتعرّض للنقد خاصة من بابَي العدَمية و«الحتمية التكنولوجية». كان بودريار قد شاع اسمه في البلدان العربية مع كتابه «حرب الخليج لم تقع» (1991) الذي طرح نقداً فلسفياً مختلفاً للحرب، إذ اعتبر أنّ حرب الخليج لم تحصل إنّما كانت محاكاة لحربٍ من الصور المتلفزة والبروباغندا التي لا تمثّل الواقع، وبالتأكيد لم ينكر العنف الذي حدث في أرض المعركة، لكنّه رأى أنّها لم تكن حرباً بمفهوم الحرب؛ من حيث طبيعة طرفَي الصراع والعتاد العسكري والصورة المنقولة والمتلفزة عن المعركة. كان بودريار من أشهر مفكّري ما بعد الحداثة، وجاءت نظرياته متأثرة بالسيميولوجيا ودور الرموز والدلالات في تقديم معنى للواقع، لكنه عارض العلاقة الحتمية بين الدال والمدلول التي اعتمد عليها هذا العِلم ومؤسّسه الفيلسوف السويسري فيردينان دو سوسير. بالنسبة إلى بودريار، إنّ غياب العلاقة بين الدال (signifier) والمدلول (signified) أدى إلى غياب الواقع أو اختفائه، لأنّ الدلالة (أو المعنى) تفترض وجود ترابط بين الصورة وما ترمز إليه. لكن في العصر الحديث القائم على التكنولوجيا وتطوّر وسائل الاتصال الجماهيري، فقدت الصورة علاقتها بالواقع واكتفَت بذاتها حتى أضحت لا تمثل أي مرجعية لمدلولها، بل تكون هي مرجعية نفسها. يشرح بودريار أن الإعلام بفعاليته المضاعفة لا يقدّم الواقع كما هو، بل حوّل الحياة الاجتماعية بين البشر إلى صورة غير حقيقية ولّدها الإعلام عن صورٍ أخرى مولّدة منه أيضاً. يقصد الناقد الثقافي أنّ ما نشاهده عبر الشاشة المتلفزة ليس صورة عن الواقع، فالواقع بذاته لم يعد موجوداً، وأنّنا اليوم نعيش في ما يسمّيه «ما فوق الواقع» أو «الواقعية المفرطة». هذه الـhyperreality التي فرضتها التكنولوجيا الرقمية عبارة عن عالم مؤلّفٍ من عمليات اصطناع وصور بلا أصل محدّد في الواقع، يُشير إليها بودريار بالسيمولاكروم (مفرد لكلمة سيمولاكرا) أي نسخة مصطنعة رقمياً عبر أجهزة الكومبيوتر يولّدها الإعلام من دون وجود أصل، صور متخيّلة ووهمية لا قيمة أصلية لها، لكنّها مهيمنة وتكسب قيمتها من قدرتها على غواية الجماهير. في ضوء الحرب على غزة أي منذ السابع من تشرين الأول والعدو الصهيوني يحاول مرة تلو الأخرى تصدير سرديّته الخاصة للعدوان، وتبرير حصاره الشامل للقطاع وقطعه كل مستلزمات الحياة الأساسية من ماء وطعام واستهداف المستشفيات وأماكن العبادة. ويمكن القول إنّه جرّب كلّ ما يمكن فعله، ليس للقضاء على «حركة حماس» فقط، بل لإخضاع الفلسطينيين للاحتلال الاستيطاني بالترهيب والقصف والإبادة، مصدّراً مجموعة من الصور التي نشرها عبر إعلامه الكلاسيكي والرقمي. كما خرج ممثلوه السياسيون والديبلوماسيون في الأرض المحتلة وحول العالم ينشرون هذه الصور التي يُفترض ـــ حسب قولهم ــــ أنّها مأخوذة من الواقع، تشكّل «تمثيلاً مخلِصاً» للواقع، وتنقل صورة الواقع من أرض المعركة. من أكثر تلك الصور انتشاراً وتأثيراً في بداية الحرب، تلك التي حملها رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو لاستعطاف الجماهير وحشد الرأي العام تجاه الحرب على «حماس» وغزة بالكامل، ويظهر فيها جسم محروق أسود اللون غير واضح المعالم، زعم أنها صورة لـِ «طفل إسرائيلي حرقته حماس بنيرانها». لكن هناك نقاط هامة عدة يجب إيضاحها حول هذه الصورة بالتحديد: أولاً: لم تكن لطفلٍ إسرائيلي محروق، ثانياً: ليست صورة طفل محروق (أي طفل من أي جنسية أو هوية)، ثالثاً: لم تكن لجسمٍ بشري محروق سواء كان طفلاً أم بالغاً، رابعاً: ليست صورة أي شيء محروق إن لم يكن بشرياً! من ضمن الأشخاص والمؤثرين الذين فضحوا الصورة، كان الإعلامي الأميركي جاكسون هينكل الذي نشر تغريدة كشف فيها أنها صورة مركّبة وجرى توليدها بالذكاء الاصطناعي، وهي في الأصل صورة كلب في عيادة بيطرية. قام هينكل يومها برد الصورة إلى ما قبل التعديلات المتتالية التي تعرّضت لها، عبر عملية عكسية للذكاء الاصطناعي.

اعتبر جان بودريار أنّ حرب الخليج لم تقع إنّما كانت محاكاة لحربٍ من الصور المتلفزة والبروباغندا التي لا تمثّل الواقع

تحدّث بودريار صاحب كتاب «روح الإرهاب» (2003) عن ضياع الواقع في متاهة الصور المصطنعة اللامتناهية، أي المتخيّلة والوهمية التي تروّج لها الميديا وتتناقلها باعتبارها تمثيلاً للواقع، وما هي إلا صور مهيمنة لا قيمة أصلية لها، بل تكتسب قيمتها من قدرتها التأثيرية على إدراك الناس وفهمهم للواقع الاجتماعي والثقافي الذي يعيشونه. هذه الـ«سيمولاكرا» التي تبثّها الميديا تحاول إقناع الناس بأنّ «الحرب هي السلم» (بتعبير الكاتب جورج أورويل صاحب رواية «1984»)، وما يردّده المسؤولون الصهاينة والغرب من تبرير للمجازر المستمرة حتى لحظة كتابة هذه السطور، وتجاوز عدد الشهداء في غزة عشرين ألفاً، نصفهم من الأطفال الصغار، يُسهم في تعزيز الفكرة المروّجة نفسها. قد يسأل القارئ عن الغرض من فبركة الصور ومحاولة اصطناع مشاهد مزيّفة يعلم الصهيوني، ذو التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، أنّها ستنكشف بعد وقتٍ قصير. هنا تجدر الإشارة إلى أهمية عمليات التضليل والخداع التي يستمر الاحتلال بالقيام بها، فإن كنا نستطيع فضحها بسهولة، يفرض السؤال نفسه: لماذا يستكمل العدو الفعل ذاته بعد الفضائح الإعلامية المتتالية؟ ببساطة، يمكن القول إنّ مسألة «الفضيحة» تشكّل فارقاً عند من هو أخلاقي بطبعه، فالفضيحة في اللغة تعني «كل ما ينكشف من انحرافٍ للقيم الأخلاقية» و«الشهرة بما يُعاب وما يجلب العار». هل يخاف الاحتلال الاستعماري والاستيطاني على سمعته من الفضيحة؟ هل كشف الكذب والبروباغاندا يخيف العدو الصهيوني بشيء؟ كيان احتلالٍ قام وجوده على نهب الأراضي وتهجير السكان الأصليين قسراً إلى خارج مدنهم وقراهم، وارتكاب المجازر وتهويد البلد، هل من الممكن أن تهزّه فضيحة صور مفبركة يمكن تبريرها بكونها جزءاً من المعركة والحرب الإعلامية؟ السبب الثاني والأهم الذي يجعل العدو يستمر في اصطناع الصور التي لا أصل لها، هو تكثيف المعلومات التي ستتراكم لدى الجماهير بفعل تأثير الميديا عليهم وبذلك يكون قد نجح في أمرين: تحصيل المزيد من الوقت في الحرب، فكلّما زيّف شيئاً جديداً ربح أياماً لاحقة في استمرار الحرب، كما أنّ الجماهير ستتناقل الصور والأخبار الأولى، أي التي نشرها للمرة الأولى مسؤولون كبار. في معظم الأحيان، يعتمد كثيرون من الجماهير على الخبر الذي سمعوه أولاً، والصورة التي شاهدوها للمرة الأولى، فتصبح بالنسبة إليهم هي الأصدق، وإن جاء فضحها بعد وقت لاحق. يوضح بودريار أنّ شاشات التلفزة ومحطات الراديو ووسائل الإعلام كافة من بينها الإنترنت، تروّج للصور والرسائل والقيم تبعاً للرغبات المتفاوتة، بحيث يتبنى المشاهد الصور في جهازه النفسي والسلوكي ويحدد عبرها علاقته مع الناس والحياة.
أشار بودريار إلى ارتباط المصطنع بالاستعمار والهيمنة والتطور التكنولوجي


بالعودة إلى العالم الـhyperreal حسب بودريار، فإنّ عملية إنتاج الصورة تطوّرت مع الزمن، وتغيّرت الصورة المنتجة وفقاً للتكنولوجيا الحديثة، فالصور ما قبل الثورة الصناعية تختلف عن تلك التي جاءت بعدها بسبب وجود المكننة، كما تختلف الأخيرة عن الصور التي تُنتج باستخدام التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي. يرى بودريار أنّ النموذج الأول للصورة هو تمثيل للواقع representation، لا يهدّد الواقع بالحلول مكانه ولا يشوّه حقيقته أو أصله، بينما أنواع السيمولاكرا اللاحقة التي تنتج في العصر الحديث هي التي تقوم بالتلاعب بالأصل وتشويه طبيعته. وهنا يأتي السؤال: هل يمكن تصنيف الصور التي تنشرها المقاومة الفلسطينية، حسب فلسفة بودريار، واقعاً حقيقياً من النوع الذي يسبق «الواقع المفرط»؟ صحيح أن الفيلسوف الفرنسي يصف العالم الذي نعيش فيه، بنمط استهلاك البشر المفرط وخروج السلع عن قيمتها الوظيفية وغيرها من الوقائع، بمجمله واقعاً مفرطاً بسبب التكنولوجيا والإنتاج الضخم والصور المنسوخة وتلك المتلفزة، إلا أنّ نوع الصور والمقاطع المصوّرة التي تنشرها المقاومة، كما الهدف المراد منها، يمكن النظر إليه باعتباره تمثيلاً صادقاً للواقع، وإن كانت فيديوات الإعلام العسكري ممنتجة لتُضيف رموزاً افتراضية إلى الصورة الأصلية. فالعديد من الفيديوات نُشرت من دون مونتاج ربما لضيق الوقت. ولدى المقارنة بينها وبين تلك التي تخضع للتعديل، نرى أنّ التعديلات والإضافات ليست بالذكاء الاصطناعي ولا تهدف إلى تغيير الحقيقة أو تهديد الواقع بالحلول محله، بل تكون الإضافات مجرّد رموز وإشارات وأحياناً بعض المؤثرات الخفيفة مثل تخفيف سرعة ضرب دبابات العدو، التي تسهم في إيضاح الصورة المنقولة.
قد يجلب هذا الاقتراح أنّ المقاومة الفلسطينية تستعيد الواقع الحقيقي في زمن الواقع المفرط، نقداً مفاده أنّ إعلام المقاومة يستخدم الأدوات التكنولوجية والإعلامية ذاتها -أو على الأقل أدوات مشابهة- لكن هنا يجب التذكير بأنّ بودريار أشار في أطروحته إلى ارتباط المصطنع بالاستعمار والهيمنة والتطور التكنولوجي. يعني ذلك أنّ العدو الصهيوني، بوجوده الاستعماري والاستيطاني وسيطرته على الأراضي المحتلة وحصاره للأراضي التي تخضع للحكم الفلسطيني مثل غزة، واحتكاره للتكنولوجيا المتطوّرة في صناعاته الحربية وفي خدمة إعلامه العسكري، هو الذي يقوم باصطناع صور ورموز ما فوق الواقعية، لا تمت للواقع بصلة، بل تخلق محاكاة مزيّفة لا أصل لها. نجد أنّ هذا التحليل يأخذنا إلى استنتاج أنّ الوجود الصهيوني على الأراضي الفلسطينية هو واقع مختلقٌ بفعل الاستعمار والقوة التكنولوجية العسكرية، أي إنّه مع روايته التاريخية المزيّفة، ليس إلّا سيمولاكرا ومحاكاة لواقع مصطنع لا أصل له... متاهة من الصور المولّدة عن صور سابقة من دون أصل.