في سياق «صيد الساحرات» ضد أيّ نقد للنظام الصهيوني، سحبت دار Fayard الفرنسية مِنْ كلِّ منافذ البيع الترجمة الفرنسية لأحد أهم الأعمال البحثية حول الإبادة الجماعية الكولونياليَّة: «التطهير العرقي في فلسطين» (2006) للمؤرخ إيلان بابيه (الأخبار 15/12/2023). منذ 7 تشرين الثاني (نوفمبر)، سحبت الدار الكتاب، الذي نُشر في طبعته الفرنسية منذ عام 2008 مِنْ قِبَلِ الناشر الباريسي نفسِه، وبالتالي لم يعد ممكناً لبائعي الكتب طلب نسخ منه لزبائنهم. وحتَى على المواقع المخصّصة للبيع، تتم الإشارة إلى أنّ الكتاب «توقّف تسويقه نهائيّاً»، كما كشفت عن ذلك وسائل إعلام فرنسيَّة. ووفقاً لمزاعم «فايار»، فإنّ السبب شكليٌّ وقانونيٌّ بحتٌ. إذ صرّح الوكيل القانوني للدار للإعلام: «انتهى عقد الكتاب منذ 27 شباط (فبراير) 2022. ولذلك ارتأت الدار، في 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، إنهاءه من دونَ تجديدِه». سبب غير مفهوم، وخصوصاً أنّ مبيعات الكتاب ارتفعت بشكل كبير في الأسابيع الأخيرة، فنصف مبيعات الكتاب، وفقاً لإحصاء رسمي، تحقَّق في أسابيع قليلة فقط، بين 9 تشرين الأول (أكتوبر) و12 تشرين الثاني (نوفمبر). ومع ذلك، وفي مناسبة عودة المبيعات إلى الارتفاع، قرّرت الدار سحب الكتاب من الرفوف، على الرغم من أنّ العقد المتنازَع في شأنه كان قديماً لمدة 21 شهراً!في الواقع، يبدو قرار «فايار» مرتبطاً بالسياق الحالي لـ «صيد الساحرات»، بالنظر إلى عملية الإسكات الممنهجة للأصوات التي تُدين سياسة التطهير العرقي والكولونيالي التي ينتهجها الكيان الصهيوني. إذا أخذنا في الحسبان السياق الفرنسي وحده، فثمة سوابق عديدة مثل محاولة منع التظاهرات المناصرة لفلسطين، واعتقال نقابي من CGT بتهمة «امتداح الإرهاب»، أو استدعاء نشطاء المجموعة اليسارية «الثورة الدائمة» للتحقيق معهم بسبب تثبيت ملصقات مناصرة لفلسطين على الجدران، إلى جانب تعليق عمل أو طرد أو استقالة إعلاميين من المؤسسات الإعلامية الفرنسية احتجاجاً على الأداء الإعلامي الفرنسي المنحاز إلى السردية الصهيونية.
من خلال بحث موثق بعناية، يوضح إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين» أنّ تأسيس «دولة إسرائيل» عام 1948 قام على طرد السكان العرب بطرق التطهير العرقي. وتشكل سياسة الطرد المنهجي هذه ما يسمّيه «الإبادة الجماعية التصاعدية». يتزامن سحب عمل بابيه أيضاً مع استحواذ مجموعة «هاشيت» على «فايار» لتكون في خدمة نشر أفكار مالكها الملياردير اليميني المتطرف فنسان بولوريه، وهو صاحب إمبراطورية إعلامية حقيقية، يضعُها في خدمة أفكاره اليمينية المتطرفة: فالقنوات والصحف التابعة له وضعت نفسها، منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 في مقدمة حملة حقيقية معادية للإسلام، جعلت من الإبادة الجماعية المستمرة «مهمَّة حضارية».
وبعيداً عن كونه فعلاً ذا صبغة قانونية فقط، فإن سحب كتاب بابيه الرئيسي يشكِّل فعلاً رقابياً مداناً، يوضح ويؤكد المدى الكامل للهجوم الرجعي السائد الذي من الضروري مواجهته بمواصلة إدانة الإبادة الجماعية المستمرة في فلسطين وتواطؤ القوى الإمبريالية معها، على رأسها فرنسا. إنّ الحاجة إلى بناء حركة واسعة تطالب بتقرير مصير الشعب الفلسطيني واختفاء الدولة الصهيونية أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأنه كما يشير بابيه — وهذه هي الخلاصة المزعِجة في الكتاب — فإن الطريقة الوحيدة لوضع حدّ للتطهير العرقي هي النضال ضد نظام الفصل العنصري الإسرائيلي من أجل «فلسطين متخلِّصة كلِّيّاً من الصهيونية ومحرّرة وديموقراطية، من النهر إلى البحر».
من جهة أخرى، حُجبت «جائزة حنَّة أرندت» عن الصحافية والباحثة ماشا غيسين بعدما حصلت عليها بسبب مقالتها عن غزة. إذ أعلنت «مؤسسة هاينريش بُلْ»، التابعة لحزب الخضر الألماني، بالاتفاق مع مجلس شيوخ مقاطعة بريمن، عن التراجع عن منح الجائزة للصحافية الروسية الأميركية ماشا غيسين، متذرِّعة بمقالتها الأخيرة في «نيويوركر» تحت عنوان «في ظل الهولوكوست» كسبب لهذا القرار. في المقال الذي نُشر في 9 كانون الأول (ديسمبر)، تنتقد غيسين سياسة ألمانيا المحابية لإسرائيل (بما في ذلك قرار البوندستاغ المثير للجدل، الذي يدين حركة مقاطعة إسرائيل باعتبارها معادية للسامية) وسياساتها الخاصة بإحياء ذكرى الهولوكوست النازي. وتقارن بين محنة سكان غزة المحاصرين اليوم بمحنة اليهود المعزولين في غيتوات في أوروبا الشرقية التي احتلها النازيون. تقول في المقال: «على مدى السنوات السبع عشرة الماضية، كانت غزة عبارة عن مجمع مكتظ بالسكان وفقير ومحاط بأسوار. لم يكن لجزء صغير من السكان الحق في المغادرة ولو لمدة قصيرة من الوقت. بعبارة أخرى: غيتو. ليس مثل الحي اليهودي في البندقية أو الحي اليهودي داخل المدينة في أميركا ولكن مثل الحي اليهودي في إحدى دول أوروبا الشرقية التي احتلتها ألمانيا النازية. وفي الشهرين الماضيين منذ هاجمت حماس إسرائيل، عانى جميع سكان غزة من الهجوم الذي لم ينقطع من قبل القوات الإسرائيلية. مات الآلاف. وفي المتوسط، يُقتل طفل في غزة كل عشر دقائق. وقصفت القنابل الإسرائيلية المستشفيات وأقسام الولادة وسيارات الإسعاف. ثمانية من كل عشرة من سكان غزة أصبحوا الآن بلا مأوى، ويتنقلون من مكان إلى آخر، ولا يستطيعون الوصول إلى بر الأمان».
ووفقاً لمقال نشرته صحيفة Die Zeit الألمانية في بداية هذا الأسبوع، فقد انتقد فرع «الجمعية الألمانية الإسرائيلية» (DIG) في بريمن بشدة تصريحات غيسين حول الوضع في قطاع غزة، ودعا إلى تعليق احتفال توزيع الجوائز المقرر. وجاء في رسالة مفتوحة من DIG في بريمن أنّ «تكريم غيسين (الكاتبة اليهودي التي قُتِل جدها على يد النازيين) سيتناقض مع الإجراء الحاسم الضروري ضد معاداة السامية المتزايدة».
حُجبت «جائزة حنَّة أرندت» عن ماشا غيسين بسبب مقالتها «في ظل الهولوكوست»

ويبدو أنّ المفارقة المتمثلة في الدعوة إلى تعليق جائزة تحمل اسم إحدى أهم المنظِّرات السياسيات المناهضات للاستبداد من أجل استرضاء حكومة طَيِّعة لدولة مارقة ترتكب حالياً جرائم إبادة جماعية ضد شعب محتل، لن تكون آخر فعلٍ فاضح لتغنِّي الألمان بقيم الديموقراطية والتَّسامح والحرية. فقد تعرضت الحكومة الألمانية لانتقادات شديدة في الشهرين الماضيين بسبب دعمها غير المشروط للحرب الإسرائيلية على غزة، فضلاً عن حملتها العدوانية على الأنشطة المناصرة والمؤيدة للفلسطينيين. كان إسكات الأصوات الفلسطينية محسوساً بشكل حاد داخل المجتمع الثقافي الألماني، في ظلّ إلغاء عروض المتاحف وجوائز الكتب والمعارض الفنية في الأسابيع الأخيرة.