فارعُ القامة مجلّلٌ بعمامة سوداء كوّرت على هيبة الأولياء ووقارهم، جاء العلامة السيد موسى الصدر (4 يونيو 1928 - اختفى في 31 أغسطس 1978) حاملاً على ظهره أمانة ثقيلة، وهموماً تنفّسها في تسابيحه النبوية وكلماته العلوية، جاء ليغادر كدأب المخلصين المصلحين، الذين يغادروننا على عجل وبلا استئذان، ولكنهم ثبّتوا أقدامهم، وسلكوا بعنفوانهم وإبائهم طريق الخلود، فكان حسيني الموقف والسلوك. من الطلبة الجادين صاحب النبوغ الحاد الذي مكّنه على الرغم من ريعان الشباب، من امتلاك قدرة استنباطية اجتهادية فذة جعلته يبدي الرأي ويسجل الملاحظات، حتى على كبار المراجع والمجتهدين في النجف الأشرف، التي خرج منها على جناح الهمّة العالية طلباً للإصلاح، ومؤمناً بأن النضال الاجتماعي كرمى الفقراء والمحرومين، هو الوجه الحقيقي العملي للإيمان الذي يستمدّ فعاليته ويتمظهر في جوهره الحقيقي من خلال ما يبذله المرء من جهد وممارسات اجتماعية خدماتية توعوية ترفع من شأن الناس، وتبعدهم عن أن يكونوا فرائس للفاسدين ولقمة سائغة في فم منتحل صفة العلم والمسؤولية في مواقعها شتى.


الرجل المقدام الذي ذاب الحوار بين يديه حياء، فقدّمه كأنجع شراب بين البشر مؤمناً بضرورته وبدِّيته في عالم عربي وإسلامي خارت قواه جراء الشقاق والتنازع، وإن كان من حوار، فإنه شكلي ميت لا جدوى منه فقط لالتقاط الصور وهذا ينافي روح الثقافة والتنوير. فالحوار عنده مكمل للعمل الاجتماعي، يعكس أصالة الإنسان الباحث عن الحقيقة والسلام توطئة لعدالة مبتغاة، وهو وجه من وجوه ضرورة التعايش البشري السيال الدافع نحو بناء روح جمعية متوحدة ترفض التقسيم والتشتت، روح تبث الحياة في الوعي الجمعوي وتبعده عن الشيخوخة والرتابة، وتجعله يعيش في ما يفكر فيه بحرية وإبداع.
دبلوماسي كأروع ما يكون الدبلوماسي في لغته السلسة، وتأثيره المهيب، كأن كلماته تمرّر لك الفكرة من دون إكراه وفرض، فعكس بها روح الوحي وطراوته ونداوة الفكرة وعذوبتها.
أطروحته حول الاجتماع والحكم وقيادة الحياة تنمّ عن ذهنية معاصرة تشرّبت أصول الإسلام في استنطاقها الحي لنصوص الكتاب والسنة الشريفة، هذه الذهنية المتوقدة قلقاً معرفياً وتوهجاً فكرياً ناضجاً هدفت إلى بناء ذات وطنية إنسانية تخترق كل الحواجز المصطنعة إيماناً منها بأن حرية الإنسان وكرامته يعادلان قدسية الأديان، وتعلو فوق لغة الطائفية والمذهبية، التي تمزق كل فرصة للتلاحم والعودة إلى الذات الأصيلة المتحابة في الله البعيدة عن كل تعصب، وانغلاق حزبي وعائلي ومناطقي التي تتربى على الوحدة والتعايش.
آمن بأن النضال الاجتماعي كرمى الفقراء والمحرومين، هو الوجه الحقيقي العملي للإيمان


أراد السيد موسى الصدر أن يرفع من شأنية الإنسان في أوطان قدّر لها أن يكون إنسانها مسحوقاً مستغلاً من جهات تستعمله كأرقام يخدم بقاءها وعنجهيتها، لذا أسّس «حركة المحرومين» التي أرادها فعلاً مشروعاً تبني الذات على مساحة الوطن، فنهض ساعياً إلى بناء مؤسسات تحتضن المستضعفين، وتأخذ بيدهم كما عمل على تأسيس مشروع المقاومة، التي تمتلك رؤية واستراتيجية وتهدف إلى حماية حقوق الإنسان وكرامته وترفض الانسياق وراء المكاسب المادية والمظاهر.
لو جاءنا اليوم ووجدنا على هذه الحال، ماذا يا ترى سيكون موقفه؟ هل سيداري ويغض الطرف؟ ويسكت هنا ويهادن هناك؟
بطبيعة الحال، هو ليس من الذين يقرون إقرار العبيد، وليس من الذين يبيعون المواقف، ويتاجرون بها، وليس من الذين يسكتون على الفاسدين، وكهنة المعابد أصحاب الضمور الديني والعقلي والثقافي والسياسي، الذين يلهثون وراء مصالحهم وأنانياتهم ومكاسبهم الدنيوية البائسة.
الإمام موسى الصدر يستحق هذه الكلمة ـــ المعلّم ـــ بجدارة، أسس لمشروع كبير قاوم ويقاوم كل محاولات زجّه في الأفق الضيق على صعيد خنقه، وتحويله إلى مشروع على مستوى حي أو شارع أو منطقة، صاحب مشروع بحجم الإنسان بحث ويبحث عن جدية أناس تبقيه حياً، وتترجمه إلى سلوكيات ومواقف تفعل فعلها في الواقع، لعله هو من ينتظرنا لنصحو من غفلتنا ولسنا نحن من ينتظره.

* أكاديمي وحوزوي