يستحق يوسف العظمة أن يكون إهداء الكتاب بين أيدينا له: «اسماً لا يُنسى وذكرى لا تُمحى» كمثال للمقاوم الوطني، الذي رفض الاحتلال، فكان شهيداً. يعدّ كتاب «العلاقات العربية التركية (1918-1923) ــــ السيرورة والتاريخ والمصائر» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) للباحث محمد جمال باروت، بمنزلة خزانة تاريخية استجمعت صفحاته دفقاً غزيراً من المعلومات والوقائع والتواريخ شبه اليومية لأحداث تلك السنوات الخمس. يتتبع الباحث أدق تفاصيل تلك السنوات «كوحدة تحليلية» شهدت تطورات مصيرية في منطقتنا، خصوصاً «محاولات التفاهم والصلح ورأب الصدع بين الأمّتين لتوحيد الجهود في مواجهة الغرب المتّجه إلى تقسيم آسيا العثمانية وليس العربية فقط». يقول: «كانت هذه المحاولات جدية وملموسة وانخرط فيها الشريف الحسين، وابنه فيصل في سورية. لكنّ الوقائع تبيّن لنا أنّ «اللاعبين» لعبوا «بالسيرورة والتاريخ والمصائر».

ثمة أسئلة حول فيصل ومصطفى كمال (أتاتورك لاحقاً): فهل من تشابه بينهما كي نبني على نتائج «توحيد الجهود في مواجهة الغرب»؟ مصطفى كمال قاوم بشراسة، وفرض شروطه من موقع القوة، «ونال احترام الغرب»، واستقلال تركيا، وباع التحالفات مع المقاومين السوريين، وابتلع أجزاء واسعة من أراضي سورية بعد انتصاره واتفاقه مع الفرنسي (مثله كان الشريف الحسين في مراسلاته الشهيرة مع ماكماهون قد وافق على أن تُستثنى ولاية أضنة (كيليكيا) من حدود الدولة العربية». أما فيصل، فكان «المزدوج الشخصية» المتردّد، الساعي إلى نيل الكرسي، «الملك المُهان»، اللامقاوم، البراغماتي، العارف ببنود اتفاقية سايكس ـ بيكو بعد نشر البلاشفة لبنودها، والمطلع على وعد بلفور، ونشاط الحركة الصهيونية في فلسطين، الخادم للجنرالين ألنبي وغورو وابتلاع إهاناتهما له، وخدمته لهما في إخماد أي بؤر مقاومة في سوريا (معلومات موثقة في الكتاب)، العديم القدرة على التخطيط ورسم السياسات. إنها وردت على ألسنة أقرب حلفائه، مع الدور الخطير الذي قاده على مدى سنتين من تاريخ سوريا (من 1/10/1918 إلى 24/7/1920).
ثمة ملاحظات أيضاً حول «مدى جدية التفاهمات» لمواجهة أطماع الغرب يومها، إذ إننا قرأنا عن «بوارق» تفاهمات سلكها مقاومون شرفاء النوايا (الدفاعيون في حكومة فيصل العربية يقابلهم المعتدلون)، ومحاولات تفاهمات لم يُوَقّع عليها، وعن حرب عصابات استفاد منها الكماليون (بالتفاصيل عنها في الكتاب)، ودَفَعَ أثمانها قتلاً واعتقالاً وتشريداً أبناء سوريا من المقاومين بالتعاون مع فلسطينيين وعراقيين (وشهدت توتراً ونعرة جهوية كما ورد) وغالباً كانت الأثمان مدفوعة للبريطاني والفرنسي بلوائح من فيصل لنيل رضاهم (تخليه عن نجدة ثورات جبل عامل عبر رفض وزير داخليته رضا الصلح والد الرئيس رياض الصلح لذلك)، وحوران، وحلب، وعن العظمة في يوم ميسلون وما سبقه من اقتتال بين أبناء دمشق، ثم لجوئه إلى درعا، فحيفا، فأوروبا، غاضّاً النظر عن سوريا بعد تلقيه إشارات من الإنكليز بتوليه عرش العراق! (من الكتاب).
من الصعوبة بمكان عرض وقائع بارزة في صفحات الكتاب نظراً إلى أهمية ما ورد فيه، وبالتالي لا يمكن التوقف عند أقسامه السبعة وما تضمنته من فصول وعناوين فرعية، أو انتقاء هذه الحادثة وإهمال تلك، فكلها من الخطورة التي رسمت مصير المنطقة العربية بتخطيط استعماري بريطاني-فرنسي، وعقلية «يا هلا بالضيف»، جعلت من الشريف الحسين يثق بالإنكليز «لأنّ الحلفاء أجلّ وأكبر من أن يخلّوا بحرف من مقرراتنا معهم» (!) في حين كانت الحركة الصهيونية على قدم وساق لاحتلال فلسطين.
يهدي كتابه إلى يوسف العظمة كمثال للمقاوم الوطني


لقد استحوذت العلاقات السورية التركية (أكثر منها العربية) على غالبية صفحات الكتاب ربما بسبب العامل الجيوسياسي، والميدان الواحد المُستهدف من الخارج، والوقائع جراء التفاهمات ونقيضها بين تلك الأطراف، ولكن، لو أنّ باروت استبدل أسماء فيصل ومصطفى كمال والاستعمار والمقاومين والمعتدلين والمنسقين مع المحتل (إمداد فيصل لجنود غورو بالمؤونة!)، بأسماء من هذه المرحلة التي نعيش، فهل كنّا لنجد غير التطابق من نكبة فلسطين إلى اليوم؟ لو أنّ هذا الجهد البحثي التاريخي تضمّن تعريفات نظرية لمعنى الثورة، فهل كل مجموعة تحمل النذر اليسير من السلاح وتقطع الطريق نُسميها ثورة؟
يستوقف قارئ الكتاب/المرجع في مجاله، هذا التساهل لدى شرائح اجتماعية عربية من مسؤولين وفئات شعبية واقتصادية وعشائرية في استقبال المحتل، والتعاون، والقتال تحت رايته، ونثر الورود على صلفه وعجرفته، والخنوع لكبريائه بكل محبة (وقائع تثير الذهول في الكتاب)، إذ إنها تحتاج إلى تفكيك سيكولوجي اجتماعي ثقافي أدبي لتلك المرحلة التي ما زالت ممتدة في مجتمعنا العربي بعناصرها «النكبوية». لعل رسالة شكيب أرسلان (وكان من المتحمسين للرهان على الكماليين) المؤرخة يوم 9 أيلول (سبتمبر) 1923 من لوزان إلى رشيد رضا، توضح طبيعة تلك العلاقة العربية-التركية يومها، فيقول: «وأما الترك، فكما قلتم لا أمل فيهم البتّة، ومرادهم - أي حكومة أنقرة - مخاصمة العرب، وإيذاؤهم بأي وجه كان، أي سياسة أهواء وطيش ونزف، فعلى العرب أن يتركوهم، وينظروا إلى أنفسهم، فمتى رأى الترك أنّ العرب انتظمت حالهم جاؤوهم يخطبون ودّهم».