من شاب كان يقطع مسافات طويلة في شوارع دمشق سيراً على الأقدام لأنّه لم يكن يملك ثمن تذكرة باص، ويفترش في ليالي شتاء التسعينيات القاسية، رصيف «كلية الفنون الجميلة» لأنّه لم يكن يملك غرفة تؤويه، ثم وصل به الضيق الشديد الى حدّ بيع الدخان المهرّب عند إشارات المرور... إلى رجل «مافيا الفن التشكيلي» كما كان يلقّب في دمشق بسبب الثراء الذي حققه، والشهرة التي بلغها. مع ذلك ظلّ التشكيلي السوري سبهان آدم يعتبر بأنّ الفقر ملح الإبداع. لو يعود ذاك الشاب الذي يخفق قلبه قبل افتتاح كل معرضٍ جديد! لكن تلك الأحلام ستظلّ بعيدة مثل حياة الفقر والتشرد، فيما سترتبط بشخصه مواصفات غرائبية بدءاً من سلوكه وصولاً إلى أجوبته في اللقاءات الإعلامية التي تبدو تماماً مثل لوحاته. كان سبهان آدم يترجم نظريات الكاتب الإنكليزي فرانسيس بيكون لما سمي مجازاً جمالية القبح. كان يطرح نفسه بثقة عمياء تصل حد الغرور أحياناً، وبصيغة متفرّدة تشبه نفسها من دون أن يتمكّن أحد من مقاربتها. يشتغل آدم منذ وقت طويل على منجز قد يبدو مكرّراً، بمعنى أنه عبارة عن لوحة واحدة يعاد إنتاجها بنسخ متعدد. لكنّ الفكرة تكمن في الهوية التي لا بد من اقتراحها ضمن قالب واحد لن يعجز صاحبه عن التجديد. عندما يعلن آدم عن معرض جديد، سنعرف دائماً أننا سنكون أمام كائنات مذعورة تشارك في لعبة العبث التي يوّرط الجمهور فيها أيضاً. يرسم غالباً وجوهاً قبيحة وأجساداً من دون أطراف آدمية، تعيش أقصى حالات العزلة والفزع غارقة في السواد. وهي لفرط ذعرها، سيخالها المرء قادرة على الهجوم عليه في أيّ لحظة. هكذا، يتفق ربما بعض النقّاد بأن وجوه سبهان آدم وشخصياته الفضائية «تحاول تفكيك العالم أو إدراكه بريبة واضحة. تجعل صاحبها يملك لغة خاصة عن الموضوع الإنساني المؤلم. رؤيته تجاوزت هيمنة الجمال، إلى منطقة القبح في محاولة لإزالة القشرة الخارجية للذات وصولاً إلى كثافة بلغت حدّ التوحّد مع الموضوع. فضاءاته خرافية قريبة من الكائنات الساحرة المسحورة بفعل لعنة ما. حتى إنّ المتلقي يشعر بأنّ الفنان يرسم الشكل نفسه، وأنه أمام كائنات تقفز من جدار إلى جدار، فقط تغيّر رداءها».لكنّ اختلافاً ما سيطرأ على منجزه في معرضه الجديد «رابونزيل» (في صالة فندق «جوليا دومنا» في دمشق «السبع بحرات»). العنوان الذي يدلّ على متلازمة نفسية نادرة يأكل المصاب فيها شعره، أراد آدم تقصّده ويبدو ذلك جلياً عندما ترد على لسان إحدى شخصياته جمل تدل على ذلك تحديداً في لوحة عازف ترومبيت التي كتب بجانبها: «مصاب بقصر طرف ولادي وبمتلازمة رابونزيل المزمنة، ومغضوب عليه من الإنس والجن معاً».
إذاً، سيختار آدم التوقيع على كلّ لوحة بطريقة مختلفة من خلال عنوان مكتوب يراد منه الإمعان أكثر في السخرية والتندّر والعبثية. سبع لوحات جدارية تعرض في حي «السبع بحرات» ليس في ذلك أي دلالة بكلّ تأكيد، لكّنها لو خطرت في بال آدم رغم سذاجتها سيصوغ منها شيئاً وفق مزاجه التهكمي الذي لا يوفّر التقاطة ولو عابرة ليصنع منها دلالة! تلك هي نتاج المعرض الذي يحقق فيه الفنان السوري ما يشبه الانحراف في بوصلة الشغل نحو فسحة أقل ضبابية لتلك الأشكال، وتبرير تشوّهاتها، وربما تلاشي التيه الذي كانت تغرق فيه لصالح شيء من الوضوح. يكتب إلى جانب لوحة لزوجين يمتطيان حماراً: «زواج مدني متأخر.. وشهر العسل الحامض في نيوجرسي< فيما يبدو متهكماً عل نفسه ومهنته عندما يرسم فناناً تشكيلياً يحمل لوحة ويقف على رأس هرم لتبيح الجملة المكتوبة عن سرّ ساخر، إذ يقول: «رسام يبيع لوحات فاشلة بملايين الدولارات.. عين الحسود لا تسود». تتصاعد حكاية الزوجين في اللوحات لتصل إلى طريق محسوم وهو الرغبة في الطلاق وهرب الزوج على حمار خضع للتجميل بينما تحمل الزوجة مسدساً وهي تقول بجملة مكتوبة إلى جانب اللوحة: «لا ترحل يا زوجي وتتركني. أعطني حصتي من الورثة المالية وإلا فسأنتحر، وذنبك على جنبك ليوم القيامة».
على هذه الهيئة لا ينأى سبهان آدم عن غرائبية بورتريهاته ومخلوقاته العجيبة، إنمّا يؤنسنها أكثر هذه المرّة، أو يصوغ دواخل البشر المشتتة والمشوهة بهذه الطريقة، ويترك لمخلوقاته تلك فرصة ترجمة الحياة بمآلات متشابهة إلى حد كبير. كأنها فلسفة خاصة يمكن اختصار مفرداتها: بأن النتائج ستكون واحدة مهما اختلفت الوجوه وتباينت الأشكال، سيبقى العالم الداخلي والمطارح النفسية واحدة تفضي بتشوّهات وتناقضات يعيشها الكائن البشري من الداخل ولو بدا على شكلها الخارجي غير ذلك