«أمسي احتراق/ احتراق غدي/ يحترق الترابْ/ يحترق الحجرْ /يحترق السحابْ». لعلّ هذا المقطع من قصيدة «سدوم» يختصر ويكثّف الأزمة الفردية والجماعية التي عاشها الشاعر خليل حاوي (1919 ــــ 1982) حين أطلق النار من بندقية صيد على نفسه بعد أيام من الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في حزيران (يونيو) 1982. لحظة افترست فيها آلة القتل والاحتلال الصهيونية البشر والناس وسط مشهد ثقافي عربي رثّ ومتهافت، في حادثة هي أكبر من أن تحمل دلالة شخصية فحسب، حتى إذا عرفنا أن محاولة الانتحار لم تكن الأولى من نوعها للشاعر الذي ينطبق عليه قول المتنبي «على قلق كأن الريح تحتي». ينطلق خليل حاوي، النقي والصافي مثل أبطال الأساطير، إلى مرحلة التضحية الكاملة والفداء بنفسه وهي مفاهيم لطالما رسّخ لبناتها في دواوينه الكبيرة مثل «نهر الرماد» (1957)، و«الناي والريح» (1961)، و«بيادر الجوع » (1965)، ليعبّر عن هموم جماعة بشرية مهدورة الحقوق ومحنة ثقافة كانت تتحرك على مرأى صليب قناص البندقية الإسرائيلية وتنسحق تحت جنازير دبابات شارون، فكان لا بد في تلك اللحظة التراجيدية من اجتراح الأسطورة والبطل والمسرح وإخراج المشهد المكتمل بطلقة «الجفت». فهو كما يصفه الشاعر شوقي أبي شقرا: «كان هو المسرح وتلك الجملة وتلك الموجة وتلك البارودة... وذلك الحاكم الذي رداؤه الصدق إلى حدّ السيف… والذي يطفح ونحن أمامه لا نجرؤ أن نكون المثال، أن نكون هو وأن نكون وإياه في حرارة، وفي ملحمة الأسطورة وفي كونه المثال، وذلك المفرد والذي من صيغة إلى صيغة كان يقفز على حد المغامرة وعتبة الغناء، إلى حيث البطولة الكاملة التكاوين، وحيث المغفرة لا حيث الانكفاء، ولا هو يرتضي إلا أن يهجم على المستحيل وإلا أن يصفعه على مسرح القوم ومسرح الشعراء ومسرح الذين يبحثون عن بطولة معاصرة».

كانت فترة الدراسة في «جامعة كامبردج» أساساً في ربط الشعر عند حاوي بـ «إعطاء الرؤية» ــ كما يقول الشاعر الفرنسي بول إيلوار ــ وشقّ صدر الشاعر ليحمل كرة اللهب من أحضان الآلهة وتنوير العالم بها. بعد أطروحة ماجستير حول النقل والعقل بين الفيلسوفَيْن المسلمَين ابن رشد والغزالي (صدرت في كتاب عن «دار نلسن»)، وأطروحة دكتوراه حول جبران خليل جبران، لم يخف حاوي إعجابه بالرومنسيّين الألمان مثل غوته وشليغل وهولدرلين وغيرهم. أسهم تبحره في الأدب الإنكليزي في استلهامه مبدأ الحيوية الخلاقة عند كولردج ورؤيا الخراب عند إليوت في «الأرض اليباب»، ناهيك بتكوينه المشرقي الذي مكّنه من استنطاق الأساطير والمرويات التراثية، لا سيما من الكتاب المقدس، فصاغ رؤية شعرية أدهشتنا في تعريفها للشعر على أنه «رؤيا تنير تجربة وفن قادر على تجسيدهما». خرج الشاعر من نطاق الغنائية الذاتية إلى مطلق التجارب الكلية، بمفردات مشحونة بالمرامي الأسطورية والحضارية وقريبة أحياناً من لغة دينية كتلك التي نعثر عليها في نشيد الأناشيد، فنقع في قصائده الأولى على تلك البروق المفعمة بالأمل والتبشير بالانبعاث الروحي والحضاري: «بومة التاريخ مني ما تريد؟/ في شرايين كنوز لا تبيد/ إنّ لي جمراً وخمراً/ إن لي أطفال أترابي/ ولي في حبّهم خمر وزاد/ من حصاد الحقل عندي ما كفاني/ وكفاني أنّ لي عيد الحصاد/ إنّ لي عيداً وعيد/ كلما ضوّأَ في القرية مصباح جديد». تصل النبرة النبوية إلى ذروتها القيامية في قصيدة «الجسر»: «يعبرون الجسر في الصبح خفافاً/ أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيد/ من كهوف الشرق/ من مستنقع الشر/ إلى الشرق الجديد/ أضلعي امتدّت لهم جسراً وطيد».
اجترح حاوي أيضاً لغة نضرة وطازجة في رموزها وصورها وإحالاتها التي يساعدنا هو نفسه في تفكيك ألغازها. نقرأ في مقدمة «جنية الشاطئ»: «في خيم الغجر المشرعة للريح، والمبحرة مع الريح، تعرى الذات عن حيوية الفطرة الأولى والبراءة الأولى، والحيوية أعياد مرح تنبع من الذات الفياضة وتنسكب فيها، والبراءة حال الإنسان الأول في ظل شجرة الحياة قبل أن تغريه حلاوة المعرفة ومرارتها في شجرة الخير والشر فيطرده سيف النار من الجنة. لذلك، كانت ذات الغجرية خير رمز للحيوية المندفعة ولشجرة الحياة، ولقدرة الإنسان في حال البراءة على الاندماج بعناصر الحيوية في الطبيعة». يسبغ الشاعر على الغجرية أوصافاً رحبة معممة ترمز إلى الأرض في تجدد حيويتها وفي بكارتها الدائمة، لكن سرعان ما خفت ضوء اليقين في نفس خليل حاوي وغلبت عليه نزعة اليأس والمرارة، فنراه في القصيدة ذاتها يصوّر لنا كيف يستعصي على الغجرية في المدينة فهم الشريعة وشجرة المعرفة وتلتقي الكاهن الموسوي حارس تلك الشجرة، فيمتحنها بالنار وبشريعة لا تسري عليها ويرميها بالإثم والشرّ والمنفى فتصاب بالخرَف، كأن الكاهن رمز الذات والحضارة معاً في حال الاحتقان الذي يحول الحيوية إلى يأس وجنون. يتصاعد المأزق الحضاري الوجودي عند حاوي لينفجر في قلب قصيدته الشهيرة «لعازر» التي يمكن مقارنتها بقصيدة «بيزنطة» لييتس، أو «الأرض اليباب» لإليوت أو «المقبرة البحرية» لبول فاليري، وقد وصف عجز المعجزة التي تقول بأنّ المسيح أحيا لعازر من الموت، لتنطق الحقيقة المُرة على لسان زوجة لعازر في القصيدة: «ولماذا عاد من حفرتهِ/ ميتاً كئيب/ غير عِرْق ينزف الكبريت/ مسودّ اللهيب/ ولماذا لم يعد يشتفّ ما في صدريَ الريان/ من حبّ تصفّى واختمر/ غيمة تزهر في ضوء القمر/ وسرير مارج بالموت/ من خمر وطيبْ/ جنة الفُلك على حمى الدوارْ/ طالما عاد إلى صدري مِرارْ/ عاد مغلوباً جريحاً لن يطيب». كأن بطل حاوي قد عانى من انبعاثه من الموت، فاصطدم بحياة رأى فيها مأساة تفوق الموت نفسه، بل رأى الموت هو الخلاص من المأساة، الخلاص من «دوامة الحمّى ومن دولاب نار» ليحيا المبعوث من رميمه بشهوة الموت وصقيع الموت. كأنه لم يجد في طبيعة أرضنا ووجودنا وثقافتنا ما يستحق الانبعاث السوي.
قصائد خليل حاوي الأولى مثل قصيدة «السندباد في رحلته الثامنة»، كانت طافحة بصور الانبعاث بوجهه المشرق، فيستهلها بذكر خبر السندباد الذي يحمل صوت الشاعر، والذي كُتب عليه كما على حاوي نفسه مصارعة حضارة أخذها بالتواتر عن السلف ليتراءى له في حومة الرؤيا نداء حب ووجد: «هل دعوة للحب هذا الصوت/ والطيف الذي يلمع في الشمس/تجسّد واغترف من جسدي/ خبزاً وملحاً/ خمرة ونار/ وحدي على انتظار»، ونرى الغلبة للحياة والخصب على الموت والجفاف، فنقرأ مثلاً في قصيدة «بعد الجليد»: «كيف ظلّت شهوة الأرض/ تدوّي تحت أطباق الجليد/ شهوة للشمس/ للغيث المغني/ للبذار الحي/ للخصب للعتيد/ للإله البعل تموز الحصيد/ شهوة خضراء تأبى أن تبيد/ وحنين نبضه يسري إلى القبر/ إلينا...». كما أن الخلاص في هذه القصيدة يتبدى على شكل أنثى: «يكفيني شبعت اليوم وارتويت/ الحلوة البريئة/ تعطي وتدري كلما أعطت/ تفور الخمر في الجرار/ بريئة جريئة/ جريئة بريئة/ في شفتيها تزبد الخمر/ وتصفو الخمر في القرار/ لن يتخلى الصبح عنّا آخر النهار». فما الذي حرّك بندول الشعر عند حاوي من الأمل في «نهر الرماد»، إلى اليأس من المعجزة في «لعازر»: لعلها الفجوة بين الرؤية اليوتوبية والواقع المزري واليأس من انبعاث منتظر في حياتنا العربية أو المشرقية، إذ عادة ما تحمل الانبعاثية النهضوية (كان حاوي عضواً في الحزب السوري القومي الاجتماعي) كمية هائلة من الحلم الأخاذ، وجرعة قاتلة من الحلم القاتل وتوتر صراع الأضداد. وهذا ما يقوله حاوي نفسه في مقدمته الصغيرة للمجموعة الصادرة عام 1965: «كنت صدى انهيار في مستهل النضال، فغدوت ضجيج انهيار حين تطاولت مراحله... لئن كنت وجه المناضل الذي انهار في الأمس، فأنت الوجه الغالب على واقع جيل، بل واقع أجيال، يبتلى فيها القوي الخيّر بالمحال فيتحول إلى نقيضه، ويتقمص «الخضر» طبيعة التنّين الجلاد والفاسق».
خرج من نطاق الغنائية الذاتية إلى مطلق التجارب الكلية، بمفردات مشحونة بالمرامي الأسطورية والحضارية


ميزة شعر خليل حاوي هي تلك الاقتحامية الجريئة التي استطاعت توسيع المدى الشعري واللغة الشعرية، وخلق أبعاد لحركة الفكر من قلب الحركة الشعرية ذاتها، إذ حمل هذا الشعر همّاً حضارياً كان في عمقه وخطابه ومفرداته من قبل وقفاً على أهل الفلسفة والفكر، وأحياناً يتناوله بعض كتّاب الرواية والمسرحية أو القصة القصيرة ولم يكن للشعر فيه نصيب، بل كان ساحة محرّمة على الشعر، بزعم أنّ للشعر مجالاً خاصّاً إذا تعدّاه، خرج عن كونه شعراً أو خرج على قيمته الجمالية ذاتها، ودخل في باب العلم أو الفلسفة أو النثر. وهذا ما يؤكده الشهيد حسين مروة في تقديمه لديوان خليل حاوي (1972) عن «دار العودة»: «لقد شارك خليل حاوي مشاركة رائدة في الثورة على هذا الزعم التقليدي الباطل، فقد دقّ، بشعره، بكل ما في شعره من عناصر الغنائية والأبعاد الوجدانية، باب الحياة الفكرية والفلسفية، ودخل هموم الناس الذين يعانون كثافة هذه الحياة ومشكلاتها، ولكن بلغة الشعر ورؤياه ورموزه وإيحاءاته، وكان ذلك شاهداً بارعاً على خطأ كل تصنيف لقضايا الحياة والوجود: هذا صنف منها يصلح موضوعاً للعلم، وذاك للفلسفة، وذلك للشعر». خفتت نبرة خليل حاوي في ديوانيه الأخيرين «الرعد الجريح» و«جحيم الكوميديا» (1979) الذي استهله بجملة شهيرة لدانتي من «الكوميديا الإلهية»: «رأيت في أروقة الجحيم بشراً لا يعيشون ولا يموتون». كانت إشارة إلى ذروة المأزق الذي عاشه الشاعر جراء توحد الذاتي بالجمعي، وتصاعد المأساة التي تستوجب تضحية كان تنبّأ بها في مقدمة «الناي والريح»: «البصّارة والجن يجسدان للشاعر رعبه من صمت لن يتولد عنه غير مأساة تحيله إلى مجنون متأله أو مهزلة تحيله إلى شاعر مهرج. وفي كلا الحالتين يستعيض بمعجزات وهمية معادلة لمعجزات أرادها أن تعيد خلق الواقع، وفي «النشيد الأخير»، يتحدى الشاعر الصمت الذي أرعبه ودفعه إلى سؤال البصارة عن مصيره، ويتغلب على المفجع بأفجع منه، بتضحية قد ترضي ربه، فيسعفه على الشعر بقدرة خالق».
كان انتحار خليل حاوي مدوياً ومفجعاً على قدر توقعاته ودعواته إلى التضحية: يقول الشاعر اللبناني شوقي بزيع في تناوله لتجربة حاوي في كتابه «مسارات الحداثة»: «بدت منظومة القيم التي آمن بها خليل حاوي والمفرطة في مثاليتها بمثابة نقطة قوته وضعفه في آن. لقد أوقفته عند التخوم الأخيرة للإحباطات وخيبات الأمل، حيث السقوط المدوي هو المحصلة الطبيعية للارتفاعات الفائضة عن الحدّ ولم نكن بحاجة إلى انتظار نهايته الفاجعة لكي نعرف ما قدمه على مذبح مثاليته من تضحيات، هو الذي كتب شعره بجماع طاقته وبكل ما يمتلك من كهرباء العصب وضراوة النيران». أنهى خليل حاوي حياته مثل الإله التموزي الذي يبتهل إليه في إحدى قصائده: «يا إله الخصب/ يا بعلاً يفض التربة العاقر/ يا شمس الحصيد/ يا إلهاً ينفض القبر ويا فصحاً مجيد/ أنت يا تموز يا شمس الحصيد/نجنا، نجّ عروق الأرض من عقم دهاها ودهانا/أدفئ الموتى الحزانى والجلاميد العبيد/عبر صحراء الجليد». كأن آلهة الشعر قد استجابت لصلاة حاوي الأخيرة، إذ بعد أشهر قليلة خرجت الأرض من عقمها وأنبتت مقاومين يطردون العدو من العاصمة يجرّ أذيال الخيبة حتى إخراجه بالكامل من أرض الوطن بعد أقل من عقدين من الزمن... كانوا يستلهمون قصيدته ويعبرون «الجسرَ» خفافاً إلى الشرق الجديد.