كانت الروائيَّة الفلسطينيَّة الصديقة وداد طه قبل أيام قليلة تتهيَّب زيارة سماح - أستاذنا وصديقنا الذي اعتدنا أن نراه قويّاً - في المستشفى، أو في منزله بعد خروجه الموقت من المستشفى، وتنتظر مني مرافقتها، وقد جمعنا سماح وأتاح لنا ولعشرات غيرنا - من خلال «الآداب» - منبراً لنشر قصصنا ومقالاتنا بعد مراجعتها وتحريرها وتنقيحها بصبر وأناة ونصائح مثَّلت بالنسبة لي شخصيّاً فائدة عظيمة وساهمت كثيراً في صنع هويَّتي وصقل شخصيَّتي الأدبيَّة. قلت لها إنَّني متفائل بتحسّن صحّته وتماثله للشفاء قريباً، وإنَّ في الوقت متّسع كي أزوره وهو في حال أفضل فلا أثقل عليه. قلت ذلك مدفوعاً برغبة داخليَّة، وبالعبارة التي قرأتها في «الأخبار» في استهلال الملف الذي نشرته عنه الأسبوع الفائت: «واجه الزميل والصديق والرفيق سماح إدريس في الأسابيع الأخيرة امتحاناً صحيّاً صعباً، واجتاز الجولة ببسالة مقاوم عتيق».
وكان هذا جزءاً من الحقيقة، أما بقيَّتها فهي أنَّني كنت أكثر جزعاً، إلى حدّ تجنّب قراءة أي شيء عن حالته الصحيَّة، فضلاً عن الاتصال به أو مراسلته أو مراسلة واحد من أصدقائه الأوفياء والشجعان الذين أحاطوا به وحظوا بشرف مرافقته في محطته الأخيرة، ولا شيء يمثلني في هذا السياق أكثر من قول ثائر ديب مخاطباً سماح «لا أريد أن أعلم حالتك بدقة، وأهرب من ذلك بالمعنى الحرفي، أريدك بيننا، عالياً كالغصن، وأريد أن أفديك».
كنت أحبّ أن أخاطبه «سماح» كما يفعل الرفاق. كان للإسم وقع خاصّ في قلبي وعقلي قبل أذنَي حتى جعلته عنواناً لمحاولة أولى في الكتابة السينمائيَّة لم تبصر النور بعد، ولكنني أمامه لم أستطع مغادرة موقع التلميذ إزاء أستاذه، وقد كان معلماً لي بكل ما تختزنه الكلمة من معانٍ نبيلة، ثمَّ أنَّ فوضى الألقاب الوهميَّة الحاصلة اليوم حمَّلتني دائماً مسؤوليَّة مضاعفة إزاء الألقاب الحقيقيَّة وحامليها. أشعر بالأسف إذ لم أكسر الحاجز مرَّةً واحدة وأضع جانباً كلمة «الدكتور» في مخاطبتي له، ولم أخبره يوماً عن حجم امتناني خشية أن يتسلل إليه ظنٌّ بوجود ممالأة لا يحبّها كلانا.
أما وقد رحل «الدكتور»، فإنَّ هذا كله أصبح غير مجدٍ ولا طائل منه، ولم أكن يوماً ممن يدَّعون وصلاً بالكبار ويبالغون في وصفه كي يطالهم قبس من ضوئهم، ولا من هواة رثاء الشهداء حين يذهبون إلى النوم وسماح الذي أفنى عمره مدافعاً عن فلسطين تليق به مرتبة الشهداء، ويروقني أكثر أن أكون حارساً لنومه لا مؤرقاً له. ولكن استعادة المواقف التي جمعتنا براحلٍ كبيرٍ زهدَ بالتكريم في حياته قبل مماته، حاجةٌ لنا ولمن لم يتسنَّ له التعرّف إلى سماح.
وقد تأخذ هذه الاستعادة طابع لوم الذات، إذ ننظر للأشياء – حين يصبح الحاضر بيننا غائباً عنَّا – من زاوية أخرى لم نكتشفها من قبل. هكذا أقرأ آخر مراسلة موجزة مع سماح.
كنت قد استطبتُ أن أشكّل جسراً بين المادَّة الرصينة وبين المنابر الأدبيَّة اللائقة القليلة التي تبقَّت لنا، فواظبت دونما تكليف من أحد على استقطاب نصوص قصصيَّة وشعريَّة لكتّاب أصدقاء من لبنان ودول عربيَّة أخرى، وخصوصاً أولئك الشبّان الذين لم ينشروا من قبل ولا يعرفون أنَّ نصوصهم تستحقّ النشر، ثمَّ مراجعة ما يحتاج من هذه النصوص إلى مراجعة وتنقيح، وإرسال بعضها إلى سماح لنشرها في «الآداب»، والبعض الآخر إلى ملحق «كلمات» في «الأخبار».
وكان يعنيني أيضاً بموازاة ذلك أن يستمتع قراء «الآداب» بقلمٍ اعتاد الكتابة لـ «الأخبار»، ولو مرَّة واحدة، والعكس. من دون أن يكون ثمَّة تخطيط مسبق أو أن يأخذ الأمر طابع عمل ممنهج، بل كان يحصل على فترات متباعدة. إلا أنَّ المصادفة وحدها رتبت نشر ثلاث قصص في ثلاثة أعدادٍ متلاحقة من «كلمات» لكتّاب يمكن اعتبارهم من «اكتشافات سماح إدريس»، فسألني يومها (مازحاً كعادته على الأغلب، لأنَّ العبارة جاءت في رسالة مكتوبة فلم أستطع الجزم بذلك من نبرته مثلاً) إن كنت في صدد إرسال كل كتَّاب «الآداب» إلى «الأخبار»، وأجبته أنَّ الأمر يتعلق بنصّ وحيد لكل كاتب، وسألته عن موعد الإصدار الجديد للآداب لأنني كنت قد أودعت في بريده الإلكتروني مجموعة من القصص الجديدة لكتّاب أصدقاء، لزوم الإصدار الجديد. لم أكن أعلم أن رحلته مع المرض الخبيث قد بدأت وأنَّ الإصدار المقصود لن يخرج إلى النور في حياته ولن يحمل بصماته، وأخشى اليوم أن أكون قد أدخلت إليه من غير قصد شعوراً بالرغبة في وراثة مبكرة لأقلامٍ تعهَّدها بالرعاية والاعتناء والاحتضان الأبوي.
ولم أكن في الحقيقة إلا واحداً من هذه الأقلام التي تدين لسماح بالكثير، وقد سألني أحد الأصدقاء يوماً عن الحكمة في نشر أغلب قصصي في «الآداب»، قبل صدورها مجموعةً في كتاب، معتبراً الأمر تضحية منّي لإضراره بالكتاب والقدرة على تسويقه بعد صدوره، فأجبته أنّ هذه التضحية التي يفترضها تكاد تكون انتهازيَّةً بشكل ما، فأنا أعرف ضيق وقت سماح وانشغالاته الكثيرة، وأعرف أيضاً الوقت الطويل الذي يقضيه في تحرير قصَّة واحدة بكل أمانة وإخلاص والذي قد يصل إلى ساعات، وأعرف أنه لن يكون ممكناً إضافة لمسته الجميلة إلى كتابي المقبل عبر تحرير ما يحتويه من قصص دفعةً واحدة، وبالتالي فإنَّ نشر هذه القصص تباعاً في «الآداب» يتيح لي هذه الميزة بالتقسيط، ليخرج كتابي بعدها متوَّجاً بلمسة المحرّر الأبرع في العالم العربي اليوم.
والحقّ أنَّ «طولة بال» سماح تبعث على الدهشة والإعجاب، ولكنَّها مفهومة لمن يعرف إخلاصه للأدب وأمانته تجاه النصوص ومشاعره الأبوية إزاء كل موهبة أدبيَّة ناشئة. ولم تكن الموازنة بين احتضان هذه المواهب والحفاظ على مستوى «الآداب» وسمعتها مهمَّة سهلة، ولكن سماح استطاع تذليل هذه الصعوبة عبر التضحية بوقته وجهده واضعاً لياليه ونهاراته في خدمة الشباب محرّراً ومنقّحاً وناصحاً ومعلماً، ليرفعهم إلى مستوى «الآداب» ولا ينزل بها إلى حداثة تجربتهم.
ولا يصحّ الحديث عن سماح من دون ذكر محاربة التطبيع التي وضعها نصب عينيه وجعل منها قضيَّته الأولى وحقَّق فيها نجاحات باهرة: أرسلتُ إليه يوماً مقطعاً من مقالة لكاتب عربيّ كبير يبرّر فيها زيارته فلسطين بتأشيرة إسرائيليَّة باعتبارها «زيارة إلى صديقنا الفلسطيني في سجنه الكبير»، وزيارة السجين ممدوحة لم تحرّمها شرائع أو أعراف من قبل، وفي ظنّي أنَّ سماح سيجعل منها موضوعاً لمقالة له في نقد هذا المنطق وأهله، لكن الأمر لم يستحقّ منه أكثر عبارة ساخرة واحدة: «فليتضامن هذا الحنون مع غزة وأهلها أولاً». وإذ قرَّرت كتابة قصَّة من وحي المقالة، تدور أحداثها في القاهرة، فقد رحَّب سماح وأفرد للقصَّة مساحةً في «الآداب» التي حملتها إلى مصر، ليراسلني بعدها عدد كبير من طلاب جامعة المنصورة بعدما طلب منهم أحد أساتذتهم - المؤمنين كما سماح بوجوب محاربة التطبيع - تحليلها. وصول ما نكتبه إلى القارئ العربي هو بعض من فضل سماح والآداب عليَّ وعلى سواي.
سماح، سنفتقدك، وسيفتقدك أصدقاؤنا في سجنهم الكبير، حين يفتح بابه قريباً على يديكَ وأيدينا.