هواجس جمالية، ومفاهيمية، وشخصيّة، تعيد قراءة الجسد بجنسانيّته، وتعيد التفكير في تأويله وعرضه
ومن ناحية أخرى، يختصر الساكسوفون علاقة دزوفيغ بوالدها، عازف الساكسوفون، ومصلّح الآلة الموسيقية في الوقت نفسه. لقد شاهدَت عملية الإصلاح والتفكيك لمرّات لا تُحصى في طفولتها في مشغله. وفي المعرض، لم تختَر أن تضع أمامنا هذه الآلة بحالتها السليمة والمكتملة. ربّما أرادت أن تُشرك المتفرّج بهذه الرحلة من التفكيك وبناء الآلة، إلا أنها اختارت أن تثبّت الساكسوفون أخيراً في وضعيّة مفكّكة، كحالة ناقصة، وفي ذلك إشارة ربّما إلى تدمير وكسر ما وتعرية، في صورة الأب الذي لم تكَد تراه دزوفيغ من دون هذه الآلة الموسيقية في السابق. تفكيك الساكسوفون إلى قطع صغيرة، يبدو كما لو أنه محاولة لحصر وجوده أمام حضور الفنانة وجسدها. عريّ يقابله عريّ آخر خاص بالفنانة، وهذا الأخير يظهر، رغم كلّ شيء، أكثر صلابة وإشهاراً من حالة الساكسوفون المنكسرة.
من بين قطع الساكسوفون، تفرد الفنانة مساحة لجلود مفاتيح الساكسوفون (Sax Pads) الدائريّة، وهي العناصر المسؤولة عن الصوت ودرجة ارتفاعه أو عمقه في الآلة. ستحمل هذه العناصر الصغيرة، وهي عبارة عن طبقة اسفنجيّة وجلديّة أحياناً، كلّ الحضور الجسدي للفنانة. إذ طبعت عليها آثار جسدها بألوان الإكريليك. هنا، تؤدّي الطباعة أكثر من تمثيل جسد الفنانة التي تذهب بحضورها الجسدي إلى أقصاه، بتخلّيها عن أيّ مسافة بين جسدها واللوحة. الطباعة هنا، تأتي كرغبة أرنيليان بأن يكون جسدها حاضراً، بآثاره المباشرة، لا بتمثيله البصري فحسب من خلال اللوحات. هكذا اختارت أن تطبع حلمتيها وجزءاً من صدرها على مفاتيح جلود الساكسوفون. خلف هذه البقع المطبوعة اختبارات عديدة خاضتها في المفاضلة بين أعضاء جسدها لتقع أخيراً على الصدر والحلمتين. أنجزت قبل ذلك بورتريهات مختلفة لجسدها العاري، لكنها اختارت أخيراً صدرها لتطبعه بألوان مختلفة، تشكّل دائريّاً مجموعة من الأكوان التي تحيلنا إلى حالات وأمزجة مختلفة، خصوصاً على الطبقة الإسفنجيّة لمفاتيح الساكسوفون التي تمتصّ الألوان، أو تظهرها بطرق مختلفة. هكذا تحضر الفنانة كصورة، كأثر، وكصانعة لهذه الصورة في الوقت نفسه.
فلنعُد مجدّداً إلى المتفرّج، الذي لن يحتاج إلى التلصّص. أمامه جسد الفنانة، أو أعضاء منه. وهي بالطبع تجربة أخرى تخوضها أرنيليان كما تسرّ لنا بعرضها أكثر أعضائها حساسيّة، أو خصوصيّة أمام المشاهد. وإن كان المعرض التجهيزي بما فيه من هدم وتفكيك وإعادة بناء لتلك العلاقة المعقّدة، يتتبع مسارات متعدّدة في العلاقة بين الأب والابنة، إلا أن الفنانة تخوض رحلة اكتشاف فرديّة وشخصيّة جداً، تتمثّل في خوض ولادة أخرى، خصوصاً حين تتقاطع مع عنوان المعرض الذي يحيل إلى عمر الفنانة في الرابعة والعشرين، وهي الفترة التي أتمّت فيها أعمالها. كلّ هذا يصبّ في النهاية بهواجس جمالية، ومفاهيمية، وشخصيّة، تعيد قراءة الجسد بجنسانيّته، وتعيد التفكير في تأويله وتوظيفه وطريقة تمثيله وعرضه.
معرض 24 Universes لدزوفيغ أرنيليان: حتى نهار الغد ــ غاليري «آرت لاب» (الجميّزة - بيروت)
غاليري «أرنيلي» للتجارب الشابّة
خلال فترة الحجر المنزلي جرّاء كورونا، افتتحت دزوفيغ أرنيليان غاليري «أرنيلي» الافتراضيّة. مشروع ولّدته هواجس فرديّة للفنانة، خصوصاً بعد تخرّجها من «كليّة الفنون الجميلة» في الجامعة اللبنانية، وهي هواجس تتعلّق ببيع وعرض الأعمال، وإيجاد سوق لها. وهذا ما يغيب عن المنهج الدراسي في الجامعة اللبنانية، حيث يتاح للطالب أن يطوّر ويختبر أدواته وأسلوبه الفني، فيما يبقى مفتقراً إلى أدوات مواجهة السوق الفني والتعامل مع الغاليريهات. هكذا أرادت دزوفيغ من هذه الغاليري تسليط الضوء على التجارب الشابّة والجديدة في لبنان والعالم العربي، بعرضها في الفضاء الافتراضي وفي معارض جماعيّة منها معرض أقامته في بيت مسك، كما شاركت بعض الأعمال في معرض تبادلي بين لبنان واليابان.