بالنسبة لأجيال كاملة من المتفرجين، كان اللاعب البرازيلي بيليه أيقونة كرة القدم في القرن العشرين، ونموذجاً استثنائياً لخروج أبناء الطبقات الفقيرة من ملاعب الأحياء الشعبية والكرة المحشوة بالأقمشة إلى أرقى ملاعب العالم، مسجِّلاً في رصيده أكثر من ألف هدف. وسوف تتكرّر الأمثولة بأسماء أخرى لا تحصى، ولكن ليس بالدهشة نفسها. ذلك أن لاعب اليوم تحوّل إلى سلعة إشهارية متنقّلة، من ماركة الفانيلة إلى ماركة الحذاء، إلى عراقة النادي، إلى الأجور الخيالية التي تُدفع لشراء هذا اللاعب أو ذاك، في مراهنات ومضاربات ضارية، تبعاً لمهارته في تحقيق الأرقام القياسية في شباك الخصم.
(بوليغان ـ المكسيك)

معارك معلنة وأخرى مضمرة في ساحة حرب حقيقية، يتخللها هتاف الجمهور، أو صمته، أو شتائمه، أو هياجه، وحتى مذابحه خارج الملعب. ورغم شعبوية كرة القدم، إلا أنها استقطبت قراءات سوسيولوجية عميقة في تفسير هذه الحمّى العالمية لجهة العنصرية والتعصّب وارتفاع منسوب الغريزة. هكذا شبّه أمبرتو إيكو لعبة كرة القدم بطقوس تؤدى وفق عادات آكلي لحوم البشر، يُذبح فيها أحد عشر شخصاً كقرابين للآلهة. لكن من يستحق التضحية به حقاً، هم ممولو هذه اللعبة، ووحوش الصحافة الرياضية والمحطات التلفزيونية. فوق هذا المسرح المكشوف،
تمضي اللعبة بما يشبه المآسي الشكسبيرية لجهة الخسارة. أن تخرج مهزوماً، كمن أُصيب بفحولته، منكس الرأس، مخذولاً، من إضاعة هدف أو ضربة جزاء. لكننا لن نجد «هاملت» بين هؤلاء. فقط محاربون أشدّاء يتطلّعون إلى إطاحة الأعداء بأكبر قدر من الخشونة والمراوغة وتكسير الركب. رايات مرفوعة، وأخرى منكّسة، تبعاً لركلات الكرة الصحيحة نحو المرمى، ورعب أو بسالة حارس المرمى. هذا العنف في اللعبة/ المعركة، استدعى وجود مسعفين بنقّالات لإخلاء الجرحى. على أن أسوأ ما يحصل للاعب هو أن يجلس في مقاعد الاحتياط، ينتظر من دون أمل أن يستدعيه المدرِّب إلى ساحة اللعب، وأن يرفع الحكم رقمه عالياً بدلاً من رقم لاعبٍ آخر، كي ينقضّ على الكرة بأقصى طاقته بوصفها طريدة.
انتهى مجد الأرجنتيني مارادونا بإصابته عمداً في الملعب، وانتهى مدمناً على الكوكايين، وبفضائح كثيرة أزاحته عن الواجهة. وفي المقابل، غادر ألبير كامو حراسة مرمى جامعة الجزائر باكراً ليتجه نحو الفلسفة. فقد اعتاد صاحب «الغريب» اللعب كحارس مرمى منذ طفولته «لأنه المكان الذي يكون فيه استهلاك الحذاء أقل، فكامو ابن الأسرة الفقيرة لم يكن قادراً على ممارسة ترف الركض في الملعب، وكل ليلة كانت الجدة تتفحص نعل حذائه وتضربه إذا كان متآكلاً». يقول عن تلك الفترة من حياته: «تعلمت أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها. وقد ساعدني ذلك كثيراً في الحياة، وخصوصاً في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة».
شبّه إيكو لعبة كرة القدم بطقوس تؤدى وفق عادات آكلي لحوم البشر


في كتابه النفيس «كرة القدم في الشمس والظل»، يحيط إدواردو غاليانو بتاريخ كرة القدم كنوع من التأريخ المضاد للتاريخ الرسمي الذي طالما تجاهل أهمية هذه اللعبة بوصفها هوية جماعية، انطلاقاً من فكرة «أنا ألعب، إذاً أنا موجود»، فأسلوب اللعب كما يقول هو «طريقة في العيش». إلا أن اللعب تحوّل إلى استعراض «فيه قلة من الأبطال، وكثرة من المتفرجين. إنها كرة قدم للنظر». ولأن صاحب «ذاكرة النار» لم يحقق أحلامه بقدميه، فكّر أن يحققها بيديه. أن يكتب عن هذه الكرة التي اخترعها الصينيون قبل قرون، مقتفياً أثر عشرات اللاعبين الحزانى بعدما ابتعد عنهم صدى التصفيق في الملاعب. هؤلاء الذين انتقلوا من الأزقة الفقيرة الى أضواء الاستادات، مراهناً على‏ «وقح مستهتر يخرج على النصّ ويقترف حماقة القفز عن كل الفريق الخصم وعن الحكم وجمهور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق الى مغامرة الحرية المحرّمة». هكذا يقتفي تاريخ المونديال مزاوجاً بين عناصر الكرة واللعب من جهة، وأبرز الأحداث العالمية التي واكبته في السنة ذاتها، في تناوب مثير. فـ 1930، هو العام الذي شهد أول مونديال في العالم، يشير إلى فيلم «الملاك الأزرق» لمارلين ديترش، وانتحار الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي، واعتقال المهاتما غاندي لمطالبته باستقلال الهند عن بريطانيا. ولكن لماذا يحتقر بعض المثقفين المحافظين لعبة كرة القدم؟ يجيب: «هذا الاحتقار يستند إلى اليقين بأن عبادة الكرة هي الشعوذة التي يستحقها الشعب، فالغوغاء المصابة بمسّ كرة القدم تفكر بأقدامها. ذلك أن الغريزة البهيمية تفرض نفسها على الجنس البشري، والجهل يسحق الثقافة، وهكذا تحصل الدهماء على ما تريده». وسيبدو الأمر أكثر شناعة لدى معظم مثقفي اليسار الذين يزدرون الكرة لأنها «تخصي الجماهير وتحرفها عن النشاط الثوري».
ويضيف غاليانو حول جنون الكرة: «مع انتهاء مونديال 1994، أطلق اسم «روماريو» على جميع الأطفال الذين ولدوا في البرازيل، وعشب استاد لوس انجلوس بيع مجزّأً في قطع صغيرة مثل البيتزا، بعشرين دولاراً للقطعة».

قراءات عدة فسّرت هذه الحمّى العالمية لجهة العنصرية والتعصّب وارتفاع منسوب الغريزة


كرة القدم صناعة احتيال وتجارة رابحة فقدت معنى السعادة، بعدما تحوّلت إلى تكنوقراطية احترافية تفرض كرة قدم تعتمد السرعة المحضة، والقوة الكبيرة، وتستبعد الفرح، وتستأصل المخيّلة، وتمنع الجسارة... هكذا يؤكد غاليانو، وفي المقابل يقول: «هي احتفال للعيون التي تنظر بسعادة للجسد الذي يلعب»! من منظور دلالي آخر، يحلّل الناقد المغربي سعيد بنكراد لعبة كرة القدم سيميائياً في كتابه «مسالك المعنى»، رابطاً متعة اللعب بـ«الاستراتيجية الحربية» و«الاستيهام الجنسي». فلعبة كرة القدم حالة ثقافية فريدة تنوس بين استراتيجية الحرب وإحالاتها المتعددة على العدوانية والاقتتال والنصر، أو الهزيمة، كما تحيل إلى عوالم الأنوثة والذكورة بدلالتهما الجنسية. أما في ما يتعلق بالارتواء أو حالات الكبت، فالأمر يحدّده «الهدف»، أي الارتقاء الانفعالي التصاعدي من حالة بدئية تمثل حالات المراودة والتنقل في «جغرافية الملعب» تمهيداً للوصول إلى أقصى حالات الانتشاء من طريق إحراز الهدف. هذا ما يفسّر الطابع الذكوري للعبة، باستثناء «الكرة» التي هي وحدها «مؤنثة». مبدأ الرجولة إذاً، هو الرابط بين الاستراتيجية الحربية والاستيهام الجنسي. ذلك أن الجنس في المتخيل الذكوري معركة، وكلّ أداة هي إحالة على الفحولة. وهذا ما تؤكده أيضاً الروائية الألمانية الفريده يلينك لجهة ذكورية اللعبة وما تنطوي عليه من تعصّب وعنف وتحريض على الفاشيّة.