في 30 آذار من العام الماضي، في ذكرى يوم الأرض الذي استُشهد فيه ستةُ فلسطينيين كانوا يحاولون منعَ السلطات الإسرائيليّة من مصادرة أراضيهم، أطلقتْ حملةُ مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان موقعَها الإلكترونيّ المميّز، ودليلًا بأبرز الشركات الداعمة للكيان الصهيونيّ.
وفي الأسبوع الحاليّ، في الذكرى 68 للنكبة، التي دمّرتْ أكثرَ من 500 بلدة فلسطينيّة وشَرّدتْ أكثرَ من 750 ألف فلسطينيّ خارج بيوتهم، تطْلق الحملةُ أوّلَ تطبيقٍ هاتفيّ بأبرز الشركات الداعمة للعدوّ؛ كما تطْلق، بالتعاون مع "لجنة قاطعْ" الجديدة، أوّلَ عريضةٍ في لبنان للمقاطعة الثقافيّة والأكاديميّة لـ "إسرائيل".

لماذا نقوم بذلك؟

لسببين:

الأول، لأنّ مقاومة الاحتلال والجريمة والعنصريّة لا تتمّ بسلاحٍ واحد، هو السلاحُ الحربيّ، وإنما تحتاج إلى رديفٍ ورافدٍ مدنيٍّ وأخلاقيّ وثقافيّ، يتمثّل في المقاطعة ومواجهةِ التطبيع. بكلامٍ أبسط وأوضح: سلاحُ المقاطعة ومواجهة التطبيع ليسا بديلًا من المقاومة المسلّحة، بل هما توسيعٌ لإطارها كي تشملَ أقسامًا أكبرَ من الشعب والأمّة.

والثاني، لأنّ المقاطعة الفعّالة تحتاج إلى توثيق ارتكابات المتورّطين في دعم "إسرائيل"، ولا يمكن أن تستندَ إلى الشائعات والأضاليل. وهذا الأمر ينطبق على الشركات الداعمة لكيان العدوّ (عبر معاييرَ محدّدةٍ كالاستثمار هناك، أو شراء أسهمٍ في شركاتٍ إسرائيليّة، أو دعم آلة الحرب بشكل مباشر،...)، كما ينطبق على الفنّانين والعلماء وغيرِهم من المشاركين في أنشطةٍ داخل الكيان الغاصب.

هكذا يتكامل الفعلُ الأخلاقيّ مع الفعل التوثيقيّ ليُنتجا مقاومةً مدنيّةً مثمرة.

■ ■ ■
سبق أن كتبنا مطوّلًا عن المقاطعة الاقتصاديّة، التي تسبّبتْ وتتسبّب اليوم بخسائر كبيرة للاقتصاد الإسرائيليّ وللشركات الداعمة له. حسبُنا أن نذكّر بانخفاض "الاستثمارات العالميّة المباشرة" في الكيان الغاصب بنسبة 46 % سنة 2014 بالمقارنة مع سنة 2013، وذلك بحسب تقرير للأمم المتحدة، نتيجةً لعوامل عديدةٍ أبرزُها المقاطعة العالميّة. كما نذكّر بأنّ شركات عالميّة ضخمة خسرتْ عقودًا هائلةً في أوروبا والولايات المتحدة، بل في الوطن العربيّ أحيانًا، بسبب دعمها للاستيطان الإسرائيليّ؛ وأبرزُ هذه الشركات: فيوليا، وجي4أس، وألستوم الفرنسية (الأخيرة خسرت المرحلة الثانية من مناقصةٍ بقيمة 10 مليارات دولار لبناء سكك حديديّة ترْبط مكّة بالمدينة المنوّرة بسبب عملها على بناء سكك حديديّة تربط القدسَ بالمستوطنات "غير الشرعية" بموجب القانون الدوليّ نفسه). والهدف من مقاطعة "إسرائيل" في العالم هو الضغطُ عليها من أجل الانسحاب من الأراضي العربيّة المحتلة عام 67، ووقفِ السياسات العنصريّة داخل فلسطين 48، ووقفِ منع اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم. وتقتدي حملةُ المقاطعة العالميّة لـ "إسرائيل" (BDS) ، في هذا الصدد، بنموذج مقاطعة نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا، وهو نموذجٌ أثمر عزلًا أخلاقياً واقتصادياً لهذا النظام أدّى الى تهاويه تدريجيّاً.

■ ■ ■
في لبنان نمتلك، أو يجب أن نمتلك، سقفاً أعلى من سقف الحملة العالميّة (BDS)، على الرغم من تقاطع بعض أهدافنا مع أهدافها. فمن حقّنا، وفي مقدورنا، ومِن واجبنا الأخلاقيّ والوطنيّ، أن نقاطعَ (ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً) كلَّ ما يمتُّ إلى الكيان الصهيونيّ بصلةٍ، وكلَّ مَن يدعمه بالاقتصاد والكلمة. غير أنّ المقاطعة هنا ليست محضَ إعلان مواقف، أو إشهار مزايدات، بل هي عملٌ جادٌّ ومكثّفٌ على إضعاف "إسرائيل" وعزلِ داعميها وفضحِ الساكتين عن جرائمها، من أجل تحرير كامل فلسطين وكامل الأراضي العربيّة المحتلة واجتثاثِ الصهيونيّة من أرضنا.
إطلاق «تطبيق» إلكتروني يتيح
معرفة البضائع والمنتجات


اليوم، وفي أول خطوة جماعيّة من نوعها في لبنان، يقرّر عاملون في المجال الثقافيّ والفنيّ والتربويّ والأكاديميّ في لبنان أن يُصْدروا عريضةً، هدفُها الأولُ والأساس: قولُ كلمة "لا" لكلّ فنّانٍ عالميّ (أو مثقفٍ عالميّ) لا يجد في بلادنا إلّا سوقاً لملء جيوبه. لن نفرشَ السجّادَ الأحمرَ في بعلبكّ وصور وجبيل والبترون وجونيه والكسليك وإهدن والذوق وبيت الدين، وفي كلِّ بقعةٍ أخرى من لبنان، لمن عَزَفَ على جثث أجدادنا في حيفا، أو أنشد النشيدَ "الوطنيّ" الإسرائيلي في إيلات، أو أحيا ذكرى "استقلال إسرائيل" في تروكاديرو في باريس، أو أيّد غزوَ لبنان في نصوصه الغنائيّة، أو "تمنّى" في تصريحاته لو قاتل إلى جانب "جيش الدفاع" سنة 1967 (هذه جميعُها ليست أمثلة افتراضيّة بل تنطبق على فنّانين عالميين بالاسم!). لن نفْصلَ بين الفنّ والسياسة يا سادة. لن نميّزَ بين صهيونيّ "إنسانيّ" يريد تجميلَ الصهيونية وحمايةَ "حلمِها الأول"، وصهيونيٍّ يريد إبادةَ وجودنا لكونه عالةً على وجوده (وأين؟ في أرضنا!). لن نحاورَ إسرائيلياً يزعم السلامَ والتعايشَ بين حضارات "الشرق الأوسط" ولكنه يستمتع ــــ في الوقت نفسه ــــ بخيرات بلادنا ويحتلّ بيوتَنا وقرانا ومزارعَنا ومدارسَنا.
لهذه الغاية، ولحاجتنا إلى تشكيلٍ ثقافيّ "مرن" على غيرِ ميوعة، تشكّلتْ لجنةٌ من صحافيين وفنانين وكتّاب لبنانيين. من نشاطاتها أنّها عمدتْ الى زيارة غالبيّة منظّمي المهرجانات الفنيّة في لبنان من أجل حثّهم على عدم استضافة فنّانين داعمين للعدوّ الصهيوني. فنحن نرى أنّ كلّ مشاركةٍ فنيّة (أو ثقافيّة أو أكاديميّة) داخل كيان العدوّ "تبييضٌ" لصفحة جرائمه لأنّها تسهم في التغطية على جرائمه، بل تقدّم أيضاً صورةً زاهيةً (وكاذبةً) عن حضاريّته وتقدّمه. وقد حقّقنا من وراء زياراتنا تلك بعضاً ممّا طمحنا إليه، ونحن في صدد استكمال النقاش مع الأخوات والإخوة في هذه المهرجانات بغية الوصول إلى أرضيةٍ مشتركةٍ تحفظ كرامة الوطنيين اللبنانيين في أرضهم، وتصونُ ذكرى الشهداء العطرة، وتسهم في عزل المتورّطين في دعم العدوّ... كلّ ذلك من دون أن تضرّ مقاطعتُنا بالسياحة في لبنان في الوقت نفسه.

الكلام سهل، نعم، لكنّ "المفاوضات" أصعب!

أما الخطوة الثانية فهي توسيعُ رقعة "عريضة المقاطعة الثقافيّة اللبنانيّة" وتعميمُها على الجمعيات الثقافيّة والفنيّة والأكاديميّة اللبنانيّة أولاً، وفي كافة أقطار الوطن العربيّ ثانياً، من أجل بناء تشكيل لبنانيّ وعربيّ يتصدّى لموجة التطبيع الزاحفة علينا، أسوةً بموجة التكفير الدمويّة؛ وكلتا الموجتين تعملان على خلق "أعداء جددٍ" في المنطقة، بل داخل كلّ قطْر عربيّ، لصالح "تحييد" العدوّ الصهيونيّ وداعميه.

■ ■ ■
اليوم، سيرتدي شارعُ الحمرا في بيروت أجملَ حلله من جديد: حلّة المقاومة الوطنيّة لـ "إسرائيل"، وحلّة الثقافة الوطنيّة المناهضة لـ إسرائيل". حلّتان تتنافسان في خدمة الوطن والأمّة، وتتسابقان على الوفاء لشهداء النكبة الفلسطينيّة وشهداء الاجتياحات المتتالية للبنان.

*رئيس تحرير مجلة الآداب، وعضو مؤسِّس في حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان و"لجنة قاطعْ".