في كتابه "صهر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب" يتحدّث الأسير والمفكّر وليد دقّة عن مساعي الاحتلال "لصهر الوعي الفلسطيني"، أو بكلمات أخرى "إعادة صياغة البشر وفق الرؤيا الإسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيّما صهر وعي النخبة المقاومة في السجون"، ويضيف:" لقد عنت المؤسسة الإسرائيلية في البداية بعملية "صهر الوعي"، جعل فكرة المقاومة فكرة مكلفة عبر هدم البيوت والقتل والتدمير الواسع. وقد بات من الواضح تماماً اليوم بأن حجم القتل والهدم والتخريب، للمنشآت والمزارع الذي كلفت بتنفيذه المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى حجم الاعتقالات الواسع في صفوف المواطنين الفلسطينيين، يفوق حاجات إسرائيل الأمنية". ورغم أن شرح الأسير دقّة لم يقتصر على التعذيب بمفهمومه المادي تحديداً إلا أن ما يجري منذ السابع من تشرين الاول (انطلاق معركة طوفان الأقصى) من حملة اعتقالات واسعة وشرسة في الضفة الغربية وإجراءات تنكيلية بحق الأسرى الفلسطينيين ، يشكّل ذروة المحاولات الإسرائيلية لتقويض قدرة الفلسطيني على المقاومة وخاصة في الضفة الغربية التي تشهد تصاعداً في الحالة النضالية، وانقضاضاً على ما تبقى من حقوق الأسرى الذين شكلت قضيتهم عاملاً محورياً في انطلاقة معركة طوفان الأقصى، بالإضافة إلى الحؤول دون توحيد الساحات.

إن العدوان على الأسرى لم يكن وليد السابع من تشرين الاول، فهو عدوان مستمر تاريخياً بكل جزئياته، وقد شهد تصاعداً حاداً مع إجراءات وقرارات وزير الأمن القومي للاحتلال إيتمار بن غفير مؤخراً. منذ الساعات الأولى لمعركة طوفان الأقصى شرعت إدارة السجون الاحتلال بعقوبات جماعية، وأغلقت جميع الأقسام في كافة السجون وسحبت المحطات التلفزيونية المتوفرة وأقدمت قوات القمع على اقتحام قسم الأسيرات بسجن الدامون مستخدمة الغاز بحقهن وقطع الكهرباء وعزل ممثّلتهن مرح باكير.
وبالتزامن مع العدوان على قطاع غزة، لجأت إدارة السّجون الإسرائيلية إلى سلسلة عقابية جماعية وانتقامية، تستهدف مقوّمات العيش البشري الأساسي للأسرى، منها قطع المياه والكهرباء وتقليص الوجبات الغذائية السيئة نوعاً وكماً، وزيادة الاكتظاظ داخل الغرف وسياسة تكثيف اقتحامات قوات القمع لأقسام الأسرى، والاعتداءات بالضرب المبرح، والكلاب البوليسية وقنابل الصوت، والغاز والهراوات، وعزل الكثير من الأسرى في العزل الانفرادي، ولم يستثن هذا التنكيل الأسرى المرضى "في عيادة سجن الرملة"، ما يفاقم من أوضاعهم الصحيّة والنفسيّة.

زيادة 1760 معتقل اداري
لطالما ارتبطت سياسة الاعتقال الإداري، بتصاعد الحالة النضالية لدى الشعل الفلسطيني، فمثلاً تم إصدار أكثر من 14000 أمر اعتقالي منذ اندلاع الانتفاصة الأولى (1987) حتى عام 1992، وعقب "اتفاقية" أوسلو عام 1993 تركزت الاعتقالات في صفوف المعارضين لها. ومع اندلاع الانتفاصة الثانية 2000 صعدّت سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" ممارستها للاعتقال الإداري سواء في أعداد المعتقلين أو ظروف الاحتجاز أو مرات التجديد. أما بعد السابع من تشرين الاول فقد صعّد الاحتلال من حملات الاعتقال، بالغة حتى نهاية الشهر الفائت (1760)، شملت كافة الفئات، كما أصدر (872) أمراً إدارياً.

شهادات من جحيم الاعتقال
تعكس شهادات المعتقلين المفرج عنهم وذويهم حجم الانتهاكات الإنسانية الفاضحة يرتكبها الاحتلال، لا بحق المعتقلين والأسرى فقط بل بذويهم وعائلاتهم في إطار سياسة العقاب الجماعي.
ومن ضمن الحالات التي وثقتها مؤسسات الأسرى، شهادة والدة الأسيرين محمد وعدي نخلة من مخيم الجلزون في رام الله 2023/10/23، حيث أفادت "بأن قوات مدججة من جيش الاحتلال اقتحمت المنزل فجرًا، وقاموا بضرب الأبناء بشكل مبرح أمام والديهم، وربطوا الابن الأصغر ريان (16) عاماً بعصبة وبدأوا بضربه أمام باقي أفراد العائلة وتهديده بالقتل، ولم يكتف الجنود بضربه بل أحضر أحد الجنود سكينًا وقام بوضعها على رقبته ثم هدده بالقتل، واستمر اقتحام المنزل أكثر من ثلاث ساعات، استخدموا فيها شتّى طرق الضرب والتنكيل مع معظم أفراد العائلة وعاثوا خرابًا في المنزل قبل انسحابهم واعتقالهم لمحمد وعدي".

المصدر: نشرة خاصة صادرة عن مؤسسات الأسرى عن شهر تشرين الثاني/ أكتوبر 2023

وفي إطار الضغط على "المطلوبين" لتسليم أنفسهم، سجلت عدة حالات اعتقال واحتجاز لنساء وأطفال. ولم يكتف جيش الاحتلال باعتقال البالغين للضغط على ذويهم من أجل تسليم أنفسهم، بل شملت السياسة احتجاز أطفال الأسرى كنوع من الضغط كما حدث مع الطفل الذي لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات من قرية بيت لقيا قضاء مدينة رام الله، والذي احتجزته قوات الاحتلال لساعة ونصف ثم أطلقوا سراحه، وقام والده (ن.ب) بتسليم نفسه لقوات الاحتلال لاحقاً (مؤسسات الأسرى).
أما المحامي حسن عبادي فقد وثّق شهادة الأسيرة لمى الفاخوري التي تعرّضت للتفتيش العاري والتي أشارت إلى أن ضابطاً من الجيش الاحتلال هدّدها في معسكر كريات أربعة قائلاً "معي 20 جندي، بدنا نغتصبك مثل ما جماعتك اغتصبوا بناتنا.. بدّي اعتقل أولادك واحرقهم.. أنتم أسرى حرب وبطلعلنا نعمل فيكم شو بدنا".
منذ الساعات الأولى لمعركة طوفان الأقصى شرعت إدارة السجون الاحتلال بعقوبات جماعية


هذا وأظهر مقطع فيديو تعذيب جنود الاحتلال لمجموعة من الفلسطينيين المدنيين العزل في ظروف حاطة بالكرامة الإنسانية، بعد تجريدهم من ملابسهم، "وكان هذا الفيديو جزءًا من مجموعة مقاطع مصورة أخرى نشرها جيش الاحتلال، يقوم فيها الجنود بتصوير فلسطينيين بعد اعتقالهم وهم في ظروف مهينة، والتعمد بوضع علم الاحتلال على المعتقلين وهم معصوبو الأعين".
ولا تقلّ شهادات مواطني الضفة عن شهادات العمّال الغزّيين الذين اعتقلوا من الضفة الغربية وأراضي الداخل الفلسطيني المحتل، حيث احتجزوا وتعرّضوا لأشد أنواع التعذيب والتنكيل يقول أحد الذين أفرج عنهم بعد أكثر من 25 يوماً:" نحنا تعذبنا عند الكل السلطة الإسرائيلية والجيش والمخابرات، ما حدا رحمنا، ولا تركونا نشتغل، أخذوا مصارينا وأواعينا، وسابونا عريانين، 3 أيام اتعذّب أنا وعريان (عارٍ من ملابسي)، يدعسوا على رؤوسنا باجريهم.. لا أكل ولا شي أنا لحد الآن بتوجع من ضربهم وتكسيرهم وعذابهم"، يضيف عامل آخر" صبح وليل ضرب وتحقيقات والخيارة والأكل يقسموه ع ستة".

قتل وتعذيب وتضييق
أدّت هذه الظروف منذ السابع من تشرين الأول إلى استشهاد الأسيرين عمر دراغمة وعرفات حمدان بالإضافة إلى عاملين من غزة أحدهما ماجد زقول وآخر لم تعلن سلطات الاحتلال عن اسمه بعد. واعتبر نادي الأسير أن استشهاد هؤلاء الأسرى يعبر عن عملية اغتيال ممنهجة عبر التصفية الجسدية والتعذيب، وحذرت من تصاعد احتمالات استشهاد المزيد منهم. يأتي ذلك في ظل عرقلة الاحتلال لعمل الطواقم القانونية التابعة لمؤسسات الأسرى، والتضييق على عملهم في المحاكم، إلى جانب توقف زيارات المحامين للأسرى داخل السجون والزيارات للمعتقلين في مراكز التوقيف والتحقيق ، ما وضع الأسرى في عملية عزل مضاعفة.
وسط ذلك عبّرت مؤسسات الأسرى عن "استهجانها ورفضها للصمت المريب الذي يحيط بموقف منظمة الصليب الأحمر الدولي، إزاء هذه التطورات مطالبة إياها "بإعلان موقف صريح يشرح أسباب عدم قيامها بدورها في هذه الظروف الخطيرة والاستثنائية".