برزت ظاهرة العمالة الفلسطينية في الداخل المحتل منذ قيام دولة الاحتلال، لأسباب عدة أهمها تدني الأجور في الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية وغياب اقتصاد فلسطيني مستقل عن اقتصاد الاحتلال. وبعد قيام سلطة فلسطينية بحسب اتفاق أوسلو، أدى توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي إلى استحالة خلق اقتصاد منفصل عن اقتصاد الاحتلال، وإلى تبعية اقتصادية مطلقة للاحتلال، تنال من خلالها السلطة بعض التسهيلات، وبالكاد يصل إلى الشعب بعض الفتات.

لا بل يتم تشجيع انتقال العمالة الفلسطينية للعمل في الداخل بأمر من سلطات الاحتلال وسياساته التي ترى في ذلك فوائد على صعد عدة، أهمها وفرة الأيدي العاملة الفلسطينية وقلة كلفتها مقارنة بالأيدي العاملة الاسرائيلية، إضافة إلى أنّ تشغيل العمّال الفلسطينيين يحرّر المشغّلين من التزامات حقوقية اتجاه العمّال. فالعامل الفلسطيني لا يعامل معاملة العامل الاسرائيلي. وسياسياً، تعدّ سياسة فتح باب العمل باباً للتنفيس والمهادنة، إذ أن الحرمان من لقمة العيش قد يكون من أسباب التمرّد والانتفاض غضبا على المحتل، فيما فتح باب العمل من خلال منح تصاريح لعمّال البناء والمقاولات الفلسطينيين يسكت الفلسطيني بلقمة عيشه ويهدّئ ناره التي قد تشتعل غضباً في أي لحظة.

عمالة الأطفال بحسب القانون الدولي
تنتشر ظاهرة عمالة الأطفال في المستوطنات والداخل، خصوصاً في القرى القريبة من الخط الأخضر. ولأنّ الأطفال دون السن القانوني لا يمكنهم الحصول على تصاريح رسمية للعمل تعرّض مؤسسات الاحتلال لانتقادات دولية وضغط منظمات حقوقية، فإن نسبة الخطورة في عمل الأطفال في الداخل أكبر. إذ يتم تهريبهم بطرق «غير مشروعة» تعرّضهم لخطر الاعتقال، بل وحتى خطر الإصابة برصاص قوات الاحتلال القريبة من جدار الفصل العنصري ونقاط التهريب. وأثناء تهريبهم، يواجهون خطر عدم التمكّن من إثبات حقوقهم، وبالتالي قد يتهرّب مشغّلوهم من دفع كامل أتعابهم مستغلين صغر سنهم وخوفهم من التوجه للشرطة التي ستعتقلهم بدلا من ملاحقة المشغّل.


تعتبر عمالة الأطفال انتهاكاً لحقوق الطفل. فبحسب اتفاقية حقوق الطفل، تحديداً المادة 32، على الدول الأطراف حماية الطفل من الاستغلال الاقتصادي، ومن القيام بأي عمل قد يكون خطيراً، أو أن يعيق تعليم الطفل، أو أن يؤثر بصحته أو بنموّه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو المعنوي، أو الاجتماعي. وقد قامت منظمة العمل الدولية بتأسيس الاتفاقية رقم 183 والتي تركز على أهمية تحديد الحد الأدنى لسن العمل، وتؤكد على تجريم عمالة الأطفال دون السن القانوني وانتهاكه لحقوقهم. إضافة إلى ذلك، أسست المنظمة اتفاقية 182 بشأن أسوأ أشكال عمل الأطفال، والتي تتناول موضوع عمالة الأطفال بجدية، وبلهجة شديدة الحرص على حق الطفل في الحماية من الاستغلال الاقتصادي، خصوصاً أسوأ الأشكال استغلالاً التي يتعرض فيها الطفل لخطر فقدان حياته أو صحّته الجسدية والنفسية. وقد يصل هذا الانتهاك في الحالة الفلسطينية إلى حد اعتباره صورة من صور الإتجار بالبشر لغرض العمالة القسرية في حال كانت هناك وسيلة إجبار أو إكراه من قبل المشغّل أو العائلة التي تدفع بأطفالها للعمل.

من المسؤول؟
طرح هذا السؤال عند الحديث عن آفات اجتماعية معيّنة لدى الشعوب المستعمَرة يستدعي العديد من الأجوبة ذات الأبعاد النفسية المجتمعية. كثيراً ما نسمع عبارات كـ «نحن (العرب/الفلسطينيون) معيبون بكذا وكذا وهم (الغرب المستعمرون) أفضل وأنجح و...إلخ»، والتي تنم عن عقدة النقص وعقدة العار واتحادهما في نفس الإنسان المقهور المستعمر بحسب وصف المفكر مصطفى حجازي المختص في علم النفس الاجتماعي. وعلى صعيد آخر، تعلو أصوات تعلّل الحال القائمة بوجود الاستعمار، وبالتالي يكون الاحتلال هو المسؤول عن كل المشاكل الاجتماعية من جهل وسرقة وفساد. وفي كلا الرأيين ظلم للواقع القائم، خصوصاً عند الحديث عن عمالة الأطفال في الداخل المحتل باعتبارها ظاهرة اجتماعية غير صحية. إذ أن المسؤولية بالطبع مشتركة، فكما لا يصح يتم تجاهل واقع الاستعمار وآثاره على تخلّف المجتمع ووقوعه في الكثير من المشكلات، لا يصح أيضاً أن التمادي في استخدام الاحتلال كـ«شمّاعة» نلقي عليها كل ما لا نستحليه.
لأنّ الأطفال دون السن القانوني لا يمكنهم الحصول على تصاريح رسمية للعمل تعرّض مؤسسات الاحتلال لانتقادات دولية وضغط منظمات حقوقية


يمكن القول إذاً إنّ المشكلة تبدأ بالاحتلال وتنتهي عندنا. صحيح أنّ الاحتلال بقهره وظلمه ونهبه للأرض ومواردها، وبإفقاره للناس وتجهيلهم ودفعهم نحو اتخاذ خيارات معينة في الحياة، سبب رئيسي في توجّه العمالة الفلسطينية للداخل، ولكن - تحديداً في ما يخص عمالة الأطفال - فإنّ للعائلة والمجتمع دوراً كبيراً مستقلاً بذاته عن دور الاحتلال. فالكثير من الأسر تدفع بأطفالها دون السن القانوني للعمل من خلال الضغط عليهم ومقارنتهم بأقرانهم ممن يساندون عائلاتهم بالمال، وذلك وفي أحيان كثيرة بوجود الأب والأم اللذين يقومان باستغلال هؤلاء الاطفال مقابل الربح الوفير. كما يمكن إلقاء اللوم على السماسرة الذين يستغلون براءة الأطفال لسرقة حقوقهم وتعريضهم للمخاطر من خلال تهريبهم ونقلهم بطرق مستهترة.

خاتمة
إنّ عمالة الأطفال في فلسطين تتخذ أشكالاً عدّة كدفع الأطفال للتسوّل في شوارع المدن، ولعلّ أحقر هذه الصور هي عمالة الأطفال في الداخل. فعدا عن أنها تحرمهم التعليم وتسلبهم طفولتهم كغيرها من الصور، إلا أنها تعرضهم للقاء حتفهم لخطورة التهريب والعمل في مستوطنات معادية في أساسها للوجود الفلسطيني.

الكثير من حالات عمالة الأطفال في الداخل المحتل تنشأ وسط ظروف تفتقر للتوعية، وفي ظل غياب الحصانة الوطنية التي قد يكتسبها الطفل في محيط أسرته


يمكن القول إنّ الكثير من حالات عمالة الأطفال في الداخل المحتل تنشأ وسط ظروف تفتقر للتوعية، وفي ظل غياب الحصانة الوطنية التي قد يكتسبها الطفل في محيط أسرته، والتي قد تحول بينه وبين توجهه للعمل في الداخل المحتل وفي بناء المستوطنات تحديداً. ومن هنا قد يكون منبع الحل. فعند توافر الحصانة الوطنية لدى الطفل والأسرة يمكن الانطلاق نحو مسعى مجتمعي لمحاربة هذه الظاهرة وخلق بدائل تسعى في جوهرها لتثبيت الصمود الفلسطيني.