يجلس عسكري أمام نصف تنكة زيت فارغة تملأها بضعة أخشاب لتكسر برد الشتاء القارس. نلمح بضعة أوراق من مجلة، ونكتشف أنها المجلة التي يصدرها جهازه العسكري، وهي المطبوعة التي كلّفته 5 آلاف ليرة من معاشه الشحيح. لا نعرف ما إذا كان العنصر يقرأ المجلة قبل أن «يستفيد» منها في التدفئة. برد الشتاء لا يسمح بطرح أسئلة الرفاهية هذه. عنصر في جهاز أمني آخر يكتفي بالضحك حين يسمع السؤال. «لا ما منقرا المجلة»، ويبدو أنه لا يطلبها أصلاً رغم اقتطاعها من راتبه.


المجلات الأمنية
يصدر عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي (وحدة الخدمات الاجتماعية) بالتنسيق والتعاون مع المديريات العامة لأمن الدولة والدفاع المدني والجمارك، مجلات «الأمن»، و«فتى الأمن» و«الدراسات الأمنية»، ويصدر عن المديرية العامة للأمن العام مجلة «الأمن العام»، كما يصدر عن قيادة الجيش اللبناني مديرية التوجيه مجلة «الجيش» ومجلة «الدفاع الوطني»، جريدة «صدى الثكنات»، ونشرة «استراحة الجندي».
تتألف كل مجلة من حوالى ثلاث ملازم (كانت أربع ملازم في العام الماضي)، تتزاحم على صفحاتها الإعلانات التجارية بأبهى وأجمل الألوان على ورق برّاق يعرف بـ glossy paper، وتحتوي كلٌّ منها على نشاطات كل مؤسسة على حدة، وإنجازات عناصرها، وبعض الإحصاءات والدراسات، وصفحات ترفيهية، إلى جانب الإعلانات المتنوعة - باستثناء مجلة «الأمن العام» التي تكون فيها نوعية الإعلانات محصورة ومنظمة لجذب بصر القارئ.

«عم بتكيّل»
في اتصال مع صاحب «المطبعة العربية» التي تتولى طباعة مجلة «الأمن»، أكد الأخير على أن البدل الذي يتلقاه من المديرية بدل «مخفف» بالعملة اللبنانية يغطي الكلفة فقط، وعلى حد تعبيره فهو يقدم هذه الخدمة لـ «الوطن». فإذا أردنا أن نطبع 30 ألف نسخة تشبه المجلة المذكورة، ستبلغ كلفة طباعتها 14200 دولار أو ما يعادلها بالليرة حسب سعر صرف السوق الموازية.
أما كلفة طباعة مجلة «الأمن العام» التي تتولى طباعتها مؤسسة «رعيدي»، فهي، بحسب العميد منير عقيقي، تسدد أيضاً بالعملة اللبنانية، وتعادل قرابة 14 مليون ليرة لبنانية لـ 3 آلاف نسخة. السعر مقارب لأسعار السوق، وأضاف أن المطبعة تقدم هذا السعر بمثابة خدمة من أجل استمرارية المجلّة. أما الجيش فلديهم مطبعتهم الخاصة ضمن إطار الشؤون الجغرافية.


وبخصوص تغطية كلفة المجلات، أكد ضابط مسؤول رفض نشر اسمه بأن المبلغ الذي يساهم به العناصر من رواتبهم كبدل للمجلة، بالإضافة إلى مردود الإعلانات يغطي كلفة إصدار المجلة «بالضبط»، وليس هناك فائض مالي من عائدات المجلة على الإطلاق. وبالتالي فإن كل السياسات والدراسات التي تقوم بها المؤسسات الأمنية هي بهدف ضمان استمرارية إصدار مجلاتها، والحفاظ على دلالة الورق المعنوية. «عم بتكيل» هي الجملة التي اعتمدها من هم في قسم المحاسبة لهذه المجلات. بحساب بسيط، وفقاً لعدد النسخ وكلفة الطباعة، يتبيّن لنا أنّها «عم بتكيّل» فعلاً. ولكن ماذا عن النسخ الزائدة المطروحة للبيع خارج المؤسسات الأمنية؟ وماذا عن عائدات الإعلانات؟
يختلف عدد الإعلانات وسعرها من مجلة أمنية إلى أخرى. فمثلاً، سعر الإعلان في مجلة «الأمن»، بحسب شركة «ريد» للإعلانات التي تتولى هذا الشق، يبدأ من حوالى مليون و900 ألف ليرة لبنانية إذا كان حجم الإعلان ربع صفحة، ويصل إلى حدود 5 ملايين ليرة إذا كان الإعلان على صفحة كاملة. أما سعر الإعلانات في مجلات الجيش، بحسب ضابط مسؤول في المجلة، فيبدأ بحوالى 10 ملايين ليرة لبنانية.


وبالنسبة إلى تولي إدارة الإعلانات فالأمر ليس محصوراً بشركة إعلانية محددة، فكل مؤسسة يمكنها أن تقدم العروض التي لديها، وبعدها تُدرَس الإعلانات من فريق مختص من أجل الموافقة عليه أو رفضه. وبالنسبة إلى مجلة «الأمن العام»، يبدأ سعر الإعلان الواحد الذي يكون على صفحة كاملة حصراً بحوالى مليونين ونصف ليرة لبنانية، بحسب رئيس شعبة المجلة، ويكون الإعلان في منتصف المجلة أو على غلافها الخارجي.
بحسب أرقام مجلة «الدولية للمعلومات»، تتراوح قيمة الرواتب للعسكريين من جنود وملازمين ومعاونين وضباط وعمداء، وفقًا لرتبهم، بين مليون ليرة (800 دولار وفق سعر الصرف الرسمي، تساوي بعد انهيار الليرة نحو 70 دولاراً) وبين 7 ملايين ليرة (4 آلاف دولار وفق سعر الصرف الرسمي، تساوي حالياً نحو 450 دولاراً).
سعر الإعلان مليون و900 ألف ليرة إذا كان ربع صفحة، ويصل إلى حدود 5 ملايين ليرة إذا كان صفحة كاملة


يبلغ عدد عناصر القوى الأمنية والعسكرية 120 ألف عنصرٍ. يبيّن هذا الرقم، بالمقارنة مع مساحة لبنان الصغيرة وعدد سكانه، أن الأزمة الاقتصادية انعكست على الأجهزة الأمنية والعسكرية الذين يشكّلون النسبة الأكبر من موظفي القطاع العام، حيث تدهورت قدرتهم الشرائية وبرزت تحديات جديدة أمام هذه المؤسسات وعناصرها، كنقص في الغذاء وأنواعه، حيث يقول أحد العناصر إن «معظم وجبات الطعام التي تقدم إلينا تُقسَّم على المجموعة، مثل علب الطون، والبيض، والخبز. وبالتالي نحن ندفع أيضاً ثمن عبوات المياه التي كانت في السابق تقدم لنا مجاناً».
أما بعد ارتفاع بدل النقل وصعوبة الوصول الى موقع الخدمة، فيشير عنصر في الجيش اللبناني بأنه يدفع شهرياً ما يقارب 500 ألف ليرة لتعبئة بنزين دراجته النارية من أجل الذهاب إلى خدمته، علماً بأن راتبه لا يتجاوز المليون ونيف، وأن مركز خدمته يبعد حوالى نصف ساعة عن مكان سكنه. تجدر الإشارة إلى أن النقل المشترك للجيش لا يستفيد منه معظم العناصر بسبب تنوّع مواقع خدمتهم، على الرغم من خصم 2000 ليرة من رواتبهم بدلًا للنقل.

كوارث طبية تصيب «الوطن»
بالعودة إلى القوانين المتعلقة بالطبابة لكافة العناصر الذين يخدمون ويعملون لدى المؤسسات الأمنية والعسكرية، تنص القوانين على أن الطبابة لمن هم في الخدمة الفعلية وللمتقاعدين مغطاة بالكامل (100%) على نفقة إدارة المؤسسة، إلا أن ظل الأزمة المالية والصحية التي نعيشها، انعكس على من هم في جهاز قوى الأمن، بسبب عدم توافر مستشفيات ومستوصفات خاصة بهم مثل الجيش.

النقل المشترك للجيش لا يستفيد منه معظم العناصر بسبب تنوّع مواقع خدمتهم

أصبح هؤلاء مرهونين لإدارة المستشفيات ومراكز الخدمات الصحية، إذ لم تعد تلك المراكز تلتزم بالتسعيرات الرسمية التي تصدر، ويطلبون مبالغ أعلى من قدرة العامل في الاجهزة الأمنية. وبذلك، يتحمل عنصر قوى الأمن نسبة 25% من قيمة طبابته أو طبابة فرد من أسرته. فمثلاً، إذا كان حساب المستشفى 100 مليون ليرة، لا تغطي المؤسسة إلا 75 مليون فقط، و«عسكري دبّر رأسك» في تجميع المبلغ الباقي. ولذا يضطر معظم العناصر إلى بيع ما لديهم من مقتنيات، كقطعة أرض أو سيارة. أو، في أبسط الأحوال، يستدينون مبالغ قد تغطي الخدمات الطبية.
لم تعد تنفع الوساطات الحزبية الوظائفية كما كان سابقاً، ولا الاستفادة من المحسوبيات السياسية والعسكرية في الأجهزة الأمنية والجيش من أجل نيل رتبة أعلى، أو أية وظيفة في أي جهاز أمني وعسكري. جميع «المغريات» قد بهتت مع التراجع الدراماتيكي للعملة الوطنية مقابل الدولار منذ عام 2019. أما صفحات المجلات الأمنية فلم تبهت، وما يزال «الوطن» براقاً.