نستعيد محمد الماغوط في ذكراه العاشرة (1934 – 2006) ونحن نعرف أن شعره لا يزال بيننا. لا نحتاج إلى إحضاره من زمنٍ بعيد ذاع فيه صيته، فهذا الشاعر الذي نبت على حدة في الشعرية العربية الحديثة، ظل محتفظاً بصيته في زمنه وفي الأزمنة التي جاءت بعده أيضاً. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن القصيدة الماغوطية هي التي قُيِّضَ لها أن تحضر في أغلب ما كُتب من قصائد النثر العربية. وإذا انطلقنا من مبدأ أنه كانت هناك ريادتان لـ «قصيدة النثر العربية»، ريادة أنسي الحاج في ديوانه «لن» (1960)، وريادة الماغوط في ديوانه «حزن في ضوء القمر» (1959)، فإن «النموذج الماغوطي» هو الذي عاش واستمر أكثر، من دون أن يعني ذلك أفضلية ساذجة لأحد الشاعرين على الآخر. ما نقوله هنا هو مجرد توصيف إجرائي يأخذ مصداقيته مما كُتب ويُكتب حتى اليوم.
نشر الماغوط ثلاث مجموعات شعرية، وتوقف بعد مجموعته الثالثة «الفرح ليس مهنتي» (1970). وحين عاد إلى الشعر بعد تجربة طويلة في المقال الصحافي والمسرح، بدا أنه لا يُضيف جديداً إلى قديمه الذي ظل طازجاً أكثر من جديده. صحيح أن نبرته الخشنة والهجومية حضرت في نصوصه الجديدة، ولكن ذلك لم يُحضر معه تلك الدهشة التي التصقت بصوره الغريزية وحزنه الفطري وصوته الطالع من حضيض الحياة الواقعية ومشهدياتها وكلامها المتخفف من البلاغة والفصاحة. ظلت تجربة الماغوط محفوظة في مجموعاته الثلاث. ومن هناك، وجد شعره حياةً أخرى في تجارب وأسماء ظهرت في السبعينات أولاً، وخصوصاً لدى مجموعة من الشعراء السوريين الذين وجدوا في الماغوط «أفقاً» شعرياً مختلفاً عما كان يكتبه الشعراء الستينيون قبلهم. ظهر ذلك في تجارب رياض الصالح الحسين ومنذر مصري وعادل محمود وفي جزء من أعمال بندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش. وترافق ذلك مع تسميات «القصيدة اليومية»، أو «الشفوية»، أو «قصيدة التفاصيل» التي أُطلقت على هذا النوع من الشعر. استحوذ الماغوط على هذه التسميات بمفعول رجعي، فباتت قصيدته جذراً لما هو يومي وشفوي وتفصيلي. ورغم أن قصائد هؤلاء لم تكن ماغوطية صرفة، إذْ تسربت إليها تأثيرات من ريتسوس، ومن الترجمات عموماً، ومن تجارب عربية وسورية ابتعدت عن التهويم والإيديولوجيا والإيقاع العالي، إلا أنهم بدوا مثل «سلالة ماغوطية» حسب تعبير قديم لعباس بيضون. سلالة لن تقتصر على السبعينيات وحدها، بل ستتطور وتتنقح في طبعات متعددة في الثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى الوقت الراهن. لم يأخذ كل الشعراء الشبان من الماغوط مباشرةً. بعضهم أخذ من تجارب وسيطة ومُحدّثة، وبعضهم مزج ماغوطيته مع سركون بولص وعباس بيضون ووديع سعادة، ومع تفعيلة سعدي يوسف الأقرب إلى شعرية التفاصيل والمشهديات اليومية. وبعضهم بدأ أصلاً من هذا المزيج كما فعل أمجد ناصر ونوري الجراح وبسام حجار في سعيهم إلى خلق أصواتهم الخاصة. وفي هذا السياق، يمكننا أن نتحدث عن أثر الماغوط الخفيّ في أي شعر مكتوب بلغة محددة وملموسة يُستخرج فيها الشعر من العادي والمهمل والسيرة الواقعية والنظرة الفردية المتواضعة إلى العالم. ويمكننا هنا، على سبيل المثال والحصر، أن نُعيد جزءاً كبيراً من ازدهار قصيدة النثر المصرية في التسعينيات إلى الأثر الماغوطي، وإن كان ممزوجاً مع تأثيرات وسيطة وقريبة أكثر لسركون بولص ووديع سعادة مثلاً. النصوص الوسيطة والمجاورة جعلت الماغوط أباً بعيداً وباهتاً أحياناً، بل إن البعض تسرعوا في تطويب تجربة رياض الصالح الحسين بوصفها الأقوى حضوراً في سياق شعرية «اليومي» و«التفاصيل»، متناسين أن رياض كان الأكثر تأثراً بالماغوط بين أقرانه السوريين. ربما الرحيل المفجع والمبكر لصاحب «وعل في الغابة» ساهم في هذا التطويب، ولكن ما نستخلصه من كل ذلك أن الماغوط لم يعد مختصراً في كونه «أباً» للشعر اليومي والشفوي، بل في كونه «أفقاً» ممتداً وواسعاً لهذا الشعر المستمر بطبعات تتجاوز الماغوط نفسه، ولكن من دون أن تقطع معه نهائياً.