مرت عقود عديدة على هزيمة الـ 67 ، ومع ذلك فإن السياق الثقافي العربي الحالي يستدعيها بشكل ملحّ. بعد هذه الأحداث المفصلية في تاريخ العرب الحديث، انكفأ المثقفون إلى التراث يحفرون فيه عن أسباب تلك الهزيمة، وانفجرت مشاريع عديدة لتفسير ذلك. ووضعت مناهج، واتجه الكتاب اتجاهات عدة ووضع التراث على طاولة التشريح وعاد بعضهم إليه لمعاودته كما لو كان الخلاص. لكنّ الواقع اليوم يؤكد أن الأزمة أعمق من كل هذه الجهود، وأنها متعددة الأوجه لا يمكن اختصارها في الدين أو التخلف الاقتصادي أو الاستبداد السياسي أو الاستعمار، إن فيها من كل هذا قليلاً: اجتمعت عوامل عديدة لتكون سبباً لتلك الهزيمة، لكن أيمكن أن نلخصها تحت عنوان واحد؟ إنه لمن اليسير أن نسمّي كل تلك العوامل في مسمّى هو بكل بساطة: اللاعقلانية. هذا المسمى له وجوه عدة: لا عقلانية ثقافية واجتماعية ودينية وسياسية واقتصادية، هكذا هي الشعوب التي تفقد لأسباب كثيرة عقلانيتها تصيبها الفوضى وتعمّها المخاوف ويجتاحها الأدواء من كل جانب: الاستبداد وجه من تلك العلل والاختفاء وراء التطرّف والتعصب لمعتقد أو دين والفساد والارتشاء المادي والرمزي والتفريط في قيم العيش معاً والتعاون والتسامح. إنّ شعوباً تفعل هذا بنفسها تدلّ على عمق المخاوف الساكنة فيها، حيث لم يعد للفرد مجال للطمأنينة والأمن خارج منطق الغلبة والقطيع. هكذا حلّل مثقّفو ما بعد الـ67 على اختلاف مشاربهم الأيديولوجية، أحداثاً عاشوها كانت مريرة عاصفة بأحلام أجيال آمنت بالاستقلال وبناء الأوطان وعصفت بها تلك الحرب وبآمالها، فكسرت شراع أحلام يقظتها ودفعتها دفعاً إلى الغوص في فهم الذات الجماعية. لقد انعقدت عام 1984 ندوة فكرية كبرى في القاهرة عنوانها «التراث وتحديات العصر في الوطن العربي» واعتبرت هزيمة يونيو الـ67 وحرب أكتوبر الـ73 اللحظات الحاسمة التي أدت إلى نشأة سؤال فكري هو محور الفكر العربي المعاصر. إنّ حركة النقد الذاتي لم تأت بشكل تلقائي، بل كردّ فعل عنيف على هزيمة الـ 67، وسطعت كتابات عديدة في هذا الاتجاه: قسطنطين زريق، صادق جلال العظم، زكي نجيب محمود، محمد عمارة، أديب منصور وآخرون كتبوا حول ما سمّي نكبةً أو نكسة أو هزيمة. وشرعت الأطروحات تتوالد أو تتضارب، وينقد بعضها الآخر، غير أن الثابت في هذا الحراك كله هو الإجماع على أنّ التراث هو قضية القضايا وأنّ لا مستقبل لمن لا رؤية واضحة وسوية لماضيه. وهكذا، فإن ما يعيشه العالم العربي اليوم من أزمات متتالية تدلّ على أنّ قضية القضايا لم تحلّ، وفهم العرب المسلمين والمسيحيين لماضيهم لم يتوضح بعد، ولم تحسم قضايا عديدة كعلاقتنا بالدين والسلطة والمرأة. إنّ ما حدث في الـ67 مفصلي لأجيال حاولت فهم أسباب الهزيمة بالدرجة نفسها من الأهمية التي للأحداث المعاصرة التي جعلت خريطة البلدان العربية على ما هي عليه من دمار وحروب وتشتّت واختناق اجتماعي واقتصادي، وأنّ مشكلات ما بعد الـ 67 التي حرصت أجيال من المثقفين على الانكباب على فهمها تحت عناوين «إشكاليات النهضة» أو «إشكاليات الإصلاح» أو «قضايا التراث والحداثة» وغير ذلك من مشاريع فكرية تتضح في ضوء الأحداث الدامية التي نعيشها ونعاينها بأعيننا، لم تُحل بعد. عملنا كمواطنين أولاً وأصحاب فكر أو رأي وموقف أن ندرك العلاقة القائمة بين مشكلات حقبة منتصف القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين الدامي الذي نعايش فيه منذ سنوات أهوالاً لا تنتهي.
حركة النقد الذاتي لم تأت بشكل تلقائي، بل كردّ فعل عنيف على هزيمة الـ 67، وسطعت كتابات عديدة في هذا الاتجاه

إن إجابات عديدة لهؤلاء المثقفين الذين قضوا سنوات عمرهم يكتبون عن التخلف والاستبداد والهزيمة والتعصب والجهل والتوظيف السياسي للدين والطائفية والحروب يمكن أن تؤلفها مقولة المعري: لا إمام سوى العقل. وحينئذ ما هي أسباب هزيمة الـ 67 وما هي الحلول الممكنة؟ إن غياب استخدام العقل في المجتمع والسياسة والدين يمكن أن يكون أهم تلك الأسباب وكذلك العكس صحيح، أي استخدام العقلنة العلمية والفكرية والسياسية والاجتماعية يمكن أن يكون أب الحلول. والعقلنة تعني وضع نظام شامل لفهم الخلل وتشخيص العيوب ووضع خطة العلاج، واستباق الأحداث الكبرى وبناء قوة ذاتية تحمي الفرد والمجتمع والثقافة والشعب والبلد والبلدان الحاملة لنفس الثقافة أو الموقع من التاريخ وضرباته والعصر وتحدياته والصراعات التي تخوضها القوى العظمى للبقاء في عرش القوة والسيطرة في العالم. إن العقلانية تعني فهم الذات ومقدراتها وإمكاناتها والثقة بها وفهم الآخر ومحاولة ربط الجسور ووضع الخطط على أساس مصالح مؤَنسنة قابلة للتطبيق، بعيداً من شعارات الأيديولوجيات الطنانة والقيم المطلقة التي لا يمكن أن تتحقق والكلام المنمق الجميل الذي ليس سوى سراب.
تحدّث برهان غليون عن اغتيال العقل في كتاب يحمل العنوان نفسه، وتساءل شكيب أرسلان عن أسباب تأخر المسلمين وتقدم غيرهم، وأعاد محمد عابد الجابري طرح السؤال نفسه وبحث في الموضوع نفسه، والطيب تيزيني وأركون والشرفي وجعيط وبلقزيز والعروي وأبو زيد وكل هذه الأجيال وضعت خططاً لإحياء هذا العقل النائم. في الواقع لم تطبق تلك الخطط بعد على بساطتها، لكن يمكن القول بأنّ التوصية التي نخرج بها من قراءة ما كتبوه حول أحداث الـ67 وما تلاها أنّ لا إمام سوى العقل. مقولة تراثية قديمة لكنها لا تزال راهنة بكل ما في القول من معنى. «لا إمام سوى العقل» تعني الخروج من جبّة الإمام والواعظ أو القس والخروج من هيمنة السياسي والخروج من أبوة الأب الرمزي مهما يكن موقعه، اجتماعياً كولي أمر أو سياسياً كحاكم أو دينياً في مسجد أو كنيسة. إن إمامة العقل لهي الحلّ لهزائم التاريخ يمكنها قلب الواقع وجعل الحضارة العربية تشرق بنور عقلها الخلاق من حيث تشرق الشمس.

* أستاذة وباحثة تونسية في مجال الحضارة العربية الإسلامية